تؤمن الكنيسة، منذ نشأتها الأولى، بأنّ الربّ يسوع إله تامّ وإنسان تامّ. وثمّة في الأناجيل الأربعة وفي باقي أسفار العهد الجديد براهين وحجج عديدة تدعم هذا الإيمان. غير أن ظهور بعض الهرطقات والبدع التي أنكرت هذه الحقيقة الراسخة في وجدان الكنيسة والمؤمنين، استدعت عقد المجامع المسكونيّة التي رفضت تعاليم المهرطقين، وصاغت الإيمان في دساتير وبيانات ما زالت إلى اليوم المرجع الثابت للإيمان المستقيم. ويجدر التنويه إلى أنّ المجامع لم تبتدع عقائد جديدة، بل أقرّت العقائد القائمة وأجمعت عليها في وجه العقائد المنحرفة التي ظهرت في أوقات متأخّرة.
أمّا أهمّ العقائد التي طالتها الهرطقات فهي تلك المتعلّقة بالثالوث الأقدس، وبتأنّس ابن الله، وبشخص يسوع المسيح الإله والإنسان. ويحتلّ المجمع المسكونيّ الرابع الذي انعقد عام 451 في مدينة خلقيدونية بالقرب من القسطنطينيّة، والذي نقيم اليوم تذكار الآباء القدّيسين الذين شاركوا فيه، مكانة بارزة. ففيه تمّ إقرار عقيدة الطبيعتين الإلهيّة والإنسانيّة في يسوع المسيح. فالمسيح الإله الأزليّ الكائن قبل الوجود قد وُلد من مريم العذراء وصار إنسانًا من دون أن يتخلّى عن الألوهة. لذلك يُعرب آباء المجمع عن إيمانهم بيسوع الكامل من حيث ألوهته والكامل من حيث إنسانيّته، الإله الحقّ والإنسان الحقّ.
قبل مجمع خلقيدونية، يؤكّد المجمع المسكونيّ الثالث المنعقد في مدينة أفسس (431) على كون المسيح إلهًا وإنسانًا في الوقت عينه، فيقول: “إنّنا نعترف بأنّ الكلمة صار واحدًا مع الجسد، إذ اتّحد به اتّحادًا شخصيًّا. فنعبد الشخص الواحد، الابن، والربّ، يسوع المسيح. إنّنا لا نفرّق بين الإله والإنسان، ولا نفصل بينهما (…) إنّما نعترف بمسيح واحد هو الكلمة المولود من الآب وهو الذي اتّخذ جسدًا”. ثمّ أصدرت الكنيسة الأنطاكيّة، التي كانت غائبة عن مجمع أفسس، بيانًا سمّي بـ”قانون الوحدة” (433)، أيّدت فيه ما جاء في قرارات المجمع، وأعلنت ما يأتي: “إنّنا نعترف بأنّ ربّنا يسوع المسيح، الابن الوحيد لله، هو إله حقّ، وإنسان حقّ… وأنّه وُلد من الآب قبل كلّ الدهور بحسب ألوهته، وأنّه هو نفسه، في الأزمنة الأخيرة، وُلد، لأجلنا ولأجل خلاصنا، من مريم العذراء بحسب بشريّته؛ وأنّه مساوٍ للآب في الجوهر بحسب الألوهة، وكذلك مساوٍ لنا بحسب البشريّة”.
عام 448 ظهرت بدعة أوطيخا الذي كان رئيس دير في القسطنطينيّة، إذ قال إنّ طبيعتي المسيح، الإلهيّة والإنسانيّة، اتّحدتا وصارتا بعد التجسّد طبيعة واحدة. تمّ رفض تعليم أوطيخا بجملته، فبعث لاون الكبير، بابا رومية، رسالة إلى فلافيانوس بطريرك القسطنطينيّة، عام 449، جاء فيها: “إنّ كلتا الطبيعتين تعمل، بالاتّحاد مع الأخرى، ما هو خاصّ بها. فالكلمة يعمل ما هو خاصّ بالكلمة، والجسد يحقّق ما هو خاصّ بالجسد. أحدهما يشرق بالعجائب، والآخر يخضع للإساءات التي توجَّه إليه… واحدٌ هو، وهو نفسه حقًّا ابن الله وحقًّا ابن الإنسان. فهو إله لأنّه في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله وكان الكلمة إلهًا (يوحنّا 1: 1)، وهو إنسان لأنّ الكلمة صار جسدًا وسكن في ما بيننا (يوحنّا 1: 14). هو إله لأنّه به كوِّن كلّ شيء وبدونه لم يكن شيء واحد ممّا كوِّن (يوحنّا 1: 3). وهو إنسان لإنّه مولود من امرأة مولود تحت الناموس (غلاطية 4: 4)”.
تبنّى آباء مجمع خلقيدونية رسالة لاون الكبير هاتفين: “هذا هو إيمان الرسل، هكذا كلّنا نؤمن، وهكذا يؤمن المستقيمو الرأي…”. وأقرّ الآباء أنفسهم التحديد العقائديّ الآتي: “إنّنا نتمسّك باتّباع الآباء القدّيسين في الاعتراف بمَن هو واحد وهو نفسه الابن وربّنا يسوع المسيح. وبصوت واحد متّفق نعلن أنّه هو نفسه تامّ في الألوهة وتامّ في البشريّة، إله حقّ وإنسان حقّ، وهو نفسه مكوّن من نفس عاقلة وجسد. إنّه مساوٍ للآب في الألوهة ومساوٍ لنا في البشريّة، شبيه بنا في كلّ شيء ما خلا الخطيئة. قبل كلّ الدهور وُلد من الآب بحسب الألوهة، وفي الأيّام الأخيرة هو نفسه، لأجلنا ولأجل خلاصنا، وُلد من مريم العذراء والدة الإله، بحسب البشريّة. واحدٌ هو، وهو نفسه المسيح، الابن الوحيد، الربّ، الذي يجب الاعتراف به في طبيعتين متّحدتين من دون اختلاط ولا تحوّل ولا انقسام ولا انفصال”.
ثمّ يعيد التحديد الخلقيدونيّ العقائديّ التشديد على وحدة الشخص في المسيح، فيتابع قائلاً: “إنّ اتّحاد الطبيعتين لم يُزل ولم يُلغِ بأيّ شكل من الأشكال ما فيهما من تبايُن، بل على العكس من ذلك، قد حُفظت سالمةً جميع خصائص الطبيعتين اللتين اتّحدتا في شخص واحد وأقنوم واحد. وهو لم ينقسم ولم ينفصل إلى شخصين، بل واحدٌ هو، وهو نفسه الابن الوحيد، الإله الكلمة، الربّ يسوع المسيح”. لم يأتِ مجمع خلقيدونيّة بعقيدة جديدة، بل أعاد التأكيد على الإيمان المستقيم الذي يعبّر عنه العهد الجديد وآباء القرون الأربعة الأولى. فيسوع المسيح الإنسان هو نفسه ابن الله وكلمته الذي صار إنسانًا كي يصير الإنسان إلهًا. هو الإله الذي تنازل وصار إنسانًا كي يخلّص الإنسان من الخطيئة والموت. هذا إيماننا المستقيم، وعليه نحيا إلى الأبد.
نشرة رعيتي
الأحد 13 تموز 2014
العدد 28