لمّا عاد الإمبراطور الرّوماني مكسيميانوس غاليريوس مظفَّرًا من حربه ضدّ الأحباش، رغب، على حسب العادة المألوفة، في أن يقدّم الناس، في كلّ مكان من الإمبراطوريّة، ذبائح للآلهة التي نصرَته على أعدائه. وإذ وصل إلى مدينة نيقوميذية، العاصمة الشرقية للإمبراطوريّة، أصدَرَ أمرًا بأن يبادر جميع مَن فيها إلى تقديم فروض العبادة للأوثان، وكلّ من يتخلّف يعرّض نفسه للملاحقة والموت.
كان الإمبراطور يعلم جيّدًا أنّ في المدينة عددًا غير قليل من المسيحيّين. وقد ظنّ أنّ ولاءه للآلهة وشُكرَه لها يحتّمان عليه ضربهم. لذلك عمَدَ إلى تشديد قبضته عليهم. ومن الإجراءات التي اتّخذها، في هذا الشأن، أنّه بادر إلى تصفية القصر والإدارات العامّة من كلّ مَن انتهى إليه أنّه مسيحيّ وبطَش بذوي الرّفعة منهم ونشر جنوده في الأحياء العامة والأزقّة ليخرجوا المسيحيّين من مخابئهم ويفتكوا بهم. وقد سالَ دم شهداء المسيح، من جديد، نتيجة ذلك، وأخذت الحال تسوء يومًا بعد يوم.
استمرّ الوضع متردّيًا، على هذا النحو، إلى أن قرب عيد ميلاد ربّنا يسوع المسيح بالجسد. يومَها جاء إلى الإمبراطور وشاة أسروّا إليه أن أنثيموس الأسقف، زعيم المسيحيّين، قد جمَع الناس في الكنيسة وهم بأعداد وافرة. فأسرَع جنوده وأحاطوا بالمكان، ثمّ جمعوا كمّيات من الحطب والأغصان اليابسة وزنّروا بها الموضع، وجعلوا عند المدخل مذبحًا متنقّلًا للأوثان. وإذ اكتملت استعدادات العسكر نادوا مَن في الداخل أنّ مَن أراد منهم النجاة فليخرج خارجًا ويضحّي للأوثان. فهبّ أغابيوس الشمّاس في المسيحيّين المجتمعين في الداخل، وهم يصلّون، وذكّرهم بالفتية الثلاثة القدّيسين. هؤلاء لمّا أُلقوا في أتون النار، في بابل، لتمسّكهم بإلههم، دعوا الخليقة كلّها إلى تمجيد الله، فنزل الكلمة الخالق إليهم، في هيئة جسمانيّة، معينًا مشدّدًا وشملهم بالندى والنسيم العليل. ثمّ قال لهم أنّ ساعة الاقتداء بهؤلاء الفتية قد حانت لنا، فلا نخشيَنَّ الميتة العابرة حبًّا بالله لأنّنا إن بذلنا له أنفسنا سُدنا معه إلى الأبد. ويبدو أنّ كلام الشمّاس ثبّت المؤمنين، لا سيّما وقد كانوا مهيّئين بالنفس والرّوح لمثل هذه المواجهة وقوى الشرّ الكونيّة. لذلك أجاب المجتمعون عمّال مكسيميانوس بصوت متّفق: “نحن نؤمن بالمسيح يسوع وله نسلّم أمرنا!”.
وتحرّك الجنود بسرعة. أخذوا يضرمون النار في أكوام الحطب والأغصان فيما جرى استكمال معموديّة الموعوظين في الداخل، وأُقيمت الذبيحة الإلهيّة. إزاء هذا المشهد المريع بقي المؤمنون متشدّدين بنعمة الله متماسكين. وإذ بدأ الدخان يتسرّب إليهم والنار تشقّ طريقها إلى داخل المبنى، أخذت أصوات المؤمنين ترتفع مردّدة أنشودة الفتية الثلاثة القدّيسين: “باركوا الرّب يا جميع أعمال الرّب! سبّحوه وارفعوه إلى الأبد!” ثمّ أخذ أحبّة الله يتساقطون الواحد تلو الأخر اختناقًا إلى أن قضوا جميعهم. وقد بقيت النار مشتعلة في المكان خمسة أيّام ولمّا انطفأت، أخيرًا، انبعثت من الموضع رائحة طيب كانت أقوى من رائحة الحريق. وقد قيل أنّ عدد الذين قضوا في المحرقة كان كبيرًا.
أمّا القدّيس أنثيموس، فذكر أنّه نجا بأعجوبة، وظنّ آخرون أنّه لم يكن موجودًا في الكنيسة وقت حدوث المحرقة. مهما يكن من أمر فإنّه لجأ إلى قرية في الجبال اسمها أومانا أخَذ منها يرعى شعبه إلى أن أُلقي القبض عليه وأُعدم بقطع الرأس.
قضى الشهداء في نيقوميذية خارج المحرقة بميتات مختلفة. القدّيسون إنديس الخصيّ وبطرس وغرغونيوس شُدّت أعناقهم إلى حجارة ثقيلة وأُلقوا في البحر. القدّيس زينون دنا من الوثنيّين، وهم في نشوة الانتصار على المسيحيّين في الكنيسة، مقبّحًا فعلهم وعماهم، فأشار الإمبراطور إلى جنوده بالقبض عليه، فأمسكوه وحطّموا أسنانه وفكّيه بالضرب بالحجارة، ثمّ أخرجوه خارج المدينة وقطعوا هامته. أمّا دوروثيوس ومردونيوس وميجدونيوس فكانوا من الأعيان ولهم وظائف هامّة في القصر. هؤلاء رموا أسيرتهم وشاراتهم بازدراء أمام الملك معترفين بكونهم خدّامًا للمعلّم الأحد سيّد المسكونة. وقد ضُربوا بلا شفقة حتّى المساء، فلم يتذمّروا ولا اشتكوا، فجرى إعدامهم بعد أيّام من الحريق: دوروثيوس بقطع الرأس، ومردونيوس بالحرق حيًّا وميجدونيوس طمرًا. الشهيد في الكهنة غليكاريوس قال للظّالمين: ما توقعونه بنا من عذابات، مهما اشتدّت، يحمل إلينا الفرح السرمديّ، فانهال عليه الجلّادون ضربًا حتّى أُعيوا. ثمّ أحرقوه حيًّا خارج المدينة. أمّا القدّيس ثيوفيلوس الشمّاس فرُجم بعدما قُطع لسانه.
طروبارية عيد الميلاد
ميلادك أيّها المسيح إلهنا قد أطلع نور المعرفة في العالم لأنّ الساجدين للكواكب به تعلّموا من الكوكب السجود لك يا شمس العدل وأنّ يعرفوا أنّك من مشارق العلو أتيت يا ربّ المجد لك.
طروبارية القدّيسين الشهداء
مغبوطةٌ الأرض المخصبة بدمائكم يا مجاهدي الرَّب، ومقدَّسةٌ المظال المتقبِّلة أرواحكم، لأنكم في الميدان قهرتم العدوّ، وكرزتم بالمسيح بدالة، فنتضرَّع إليكم أن تبتهلوا إليه بما أنه صالح ليخلِّص نفوسنا.