كلمة البطريرك يوحنا العاشر
في دير القدّيس جاورجيوس الحميراء،
أصحاب السيادة،
الحضور الرسمي الكريم،
إخوتي وأحبتي،
يا أبناء هذا البلد الطيّب بكل أطيافه، يا أبناء وادينا الطيّب،
يامن إيمانهم بالرّب عزاء قلوبنا ويامن حبُّهم لديارهم فخر نفوسنا،
يطيب لي أن أكون بينكم في هذا المكان المقدّس، في دير مار جرجس الحميراء، وهو قلب وادينا النابض ومشتل القداسة الغابرة والحاضرة التي يفوح عبيرها إلى كلّ أرجاء سوريا وإلى جوارها أيضاً.
يطيب لي أن أكون بينكم وأن أرى وجوهاً عرفتها لأكثر من عشرين عاماً، أراها اليوم أيضاً، وأرى فيها الطيبة والغيرة التي عهدتها يوم أتيت إلى ههنا في تسعينيات القرن الماضي.
أراها وأرى الأصالة في عيونها وعيون أبنائها. أراها وفي عينيّ يلتمع شوق الأب الراعي لأحبته وتوقه لأن يصافح في عيونكم حلاوة تلك الأيام الماضية ورهجة وغبطة اللقاء بكم.
كونوا متأكدين أن الأب “يوحنا” الذي عرفتموه وعرفكم قبل عشرين عاماً كاهناً وأسقفاً أحبكم وقام بخدمتكم ورعايتكم، رغم كلّ ضعفاته، سيبقى دوماً مصليّاً لأجلكم، وهو نفسه الآن يطلب من، كلّ شيخ ورجلٍ وامرأة وشابٍّ وطفلٍ، ويطلب منكم جميعاً أن تصلّوا من أجله.
أحييكم في المسيح يسوع، الممجد في قدّيسيه والممجّد في كلّ واحدٍ منّا إذا ما أتم مشيئته المقدّسة، أحييكم بالرّب المحيي الذي باسمه نعتمد وعلى اسمه نمشح حياتنا كما أجسادنا بميرون تعليمه الخلاصي، وبسلطانه ننال مغفرة الخطايا وبحمرة دمه نصير مساهمي الحياة الأبدية.
أحييكم به، هو الذي ببركته تترسخ أسس بيوتنا وعلى مبادئ إنجيله نربي أولادنا وعلى رجاء لقياه في حياة أخرى نلج ثرى هذه الأرض، التي نعشقها ونقبّل فيها تراب أجدادنا.
وادينا الطيب هو موقد غيرةٍ ربانيةٍ.
وادينا الطيب هو “فوّار” محبةٍ ولهفةٍ.
وادينا “حصن” محبةٍّ لكلّ مهجّرٍ ونسمة طمأنينة لإخوتنا الذين وجدوا فيه ملاذاً آمناً عندما جارت الأيام. وادينا “راويل” نفوسٍ التحفت بإكرام القداسة وحبّها، فأنبضت هذا الحب في حياتها.
وادينا جيرةُ “سائحٍ” يرفع بخور مؤمنيه إلى قبب السماء.
وادينا عَيْنُ طيبةٍ ومودّةٍ يُدفق مع مياه “عين مريم” نفوساً انعجنت بأديم هذه الأرض وامتزجت بالغيرة الإيمانية، نفوساً لوّحتها شمس “سهل البقيعة” وجواره، فنضجت في “تنّورِ” عشقها لله ومحبتها للإنسان والوطن.
أذكر دوماً أن المثلّث الرحمة البطريرك إغناطيوس الرابع اعتاد أن يأتي بكبار ضيوفه إلى هذه المنطقة بالتحديد كما إلى غيرها ليظهر للضيف كيف تتقد النفوس غيرةً وإيماناً، ولا زلت أذكر أن كثيراً من ضيوفه لطالما تحدّثوا عن مغامراتٍ ومفاجآت لهم، عندما رأوا سيارتهم تُحمل بمن فيها، حماساً ومحبةً وترحيباً، بتلك السواعد نفسها التي “ربّعت” أجراس الكنائس بقوةٍ وعنفوان تعبيراً عن محبةٍ وإيمانٍ رضعته من صدور الأمّهات وجلَتْه حباً بالإنسان والوطن.
يسرّني أن أكون هنا بينكم في القسم السوري من أبرشية عكار، هذه الأبرشية التي يرعاها سيادة الأخ باسيليوس (منصور).
لقد اختبرنا سويّاً في هذه الأبرشية أيّها الأخ الجليل ذكرياتٍ تكتب على صفحات القلوب. إننا نرى في ثباتك، أيها الأخ الحبيب، رسوخ وانغراس “السائح” في وادينا، ونرى في بياض قلبك نصاعة الثلجِ المكلّل جبال عكار، ومعك نصلّي ومع الإخوة الأساقفة أثناسيوس وديمتريوس وإيليّا، كي يَرسخَ كلُّ أخٍ لنا في أبرشية عكار بقسميها اللبناني والسوري في أرضه، وأن نتعلّم، ونحن نفعل ذلك، من بياض ثلج عكار كيف نتلمس ومن وسط الضيق نصاعة الأمل وقوة الرجاء بالله.
كما نصلّي أيضاً إلى القدّيس جاورحيوس أن يكون حارساً لهذا الدير المقدّس، وأتوجّه بالتحيّة لقدس الأرشمندريت دمسكينوس الكعده ضارعاً إلى الرّب أن يكون دوماً إلى جانبه وإلى جانب الآباء الرهبان. كما أتوجّه بالتحيّة أيضاً إلى الأم بيلاجيا وراهبات دير مار تقلا في معلولا المتواجدات حالياً في ضيافة هذا الدير المقدّس.
قد يكون لهذا الوادي طبعٌ خاص لا بل صبغة خاصة. إلّا أن ذلك لا يعني أبداً أننا جزيرةٌ في قلب الوطن الأم.
نحن هنا لا نعرف الفئويّة، لكننا نألف لغة التقارب والعيش الواحد تحت سقف الوطن الواحد والعلم الواحد. نحمد الله أن الأمان عاد، ولو نسبياً، إلى هذه البقعة ونصلّي من هنا بقلبٍ واحدٍ إلى أن يعود الأمان والسلام إلى كلّ التراب السوري الذي يوحّدنا فيه مع إخوتنا، سائرِ أطياف هذا الوطن، تاريخُ عيش ونضالٌ من أجل قضاياه، وشهادةٌ مشتركةٌ في سبيل قضايا هذا الوطن.” فالتراب الذي شرب دماء الشهداء – كما قال أحد أسلافنا البطاركة – لم يسأل إذا كان هذا الدم مسلماً أم مسيحيّاً. الدم واحدٌ هو دم الحقيقة، وعندما نتمكّن، ونحن نفعل ذلك، أن نضع دماءنا رخيصةً على تربة الوطن، لا بد أن تنبت دماؤنا شجرةً يانعة تتحدّى عواصف البطل ليبقى صوت الحق في الدنيا”، ودماء جول جمال، ابن المشتاية البار، كما غيرها التي تحدّت عواصف البُطل يومها هي خير دليل أن هذا الوادي هو قلبٌ يخفق حباً بسوريا.
نحن لا نتغنّى بالمستحيل إذا ما قلنا أن بلادنا عرفت أخوةً بين سائر أطياف مجتمعاتها. وفي الوقت نفسه لا ندّعي أن الفردوس السوري لم يعرف قلاقل طائفية في كثير من الأحيان، لكننا نرفض أن يعمّم النموذج التزمّتي المقيت على علاقتنا مسلمين ومسيحيين في سوريا.
إن حقائق التاريخ القريب ومنطق الجغرافية يقول بأن مسيحيي هذه البلاد ومسلميها لا يعرفون لغة التكفير والتزمّت، بل يعرفون بوتقةً واحدةً تضمّهم إلى صدر الوطن الواحد.
نقول للقاصي وللداني، لا تأخذوا من التاريخ ما قد يسيء للحاضر، ولا تنبشوه لتستوردوا منه ما قد يُهرم سلام الحاضر ببعض لحظات الماضي. تمثلّوا بزهوره وما أكثرها.
أقول لمن يهجّر مسيحياً واحداً، ولمن يخطف المطارنة والكهنة وسائر الناس، ولمن يسيء المعاملة في هذه الأيام. لم يوصِ الإسلام ولا أي دين بذلك. لقد أوصت العهدة النبوية، التي تفصلنا عنها أمتارٌ فقط، إذ يحوز هذا الدير على أثمن نسخها، أوصت بحماية “النصارى”، بـ”حسن معاملتهم”.
هل لنا أن نعرف على أيّة عهدةٍ ارتكز أولئك الذين نكلوا بمسيحيي معلولا والموصل، ولن نذكر أسماءً أكثر لئلا نقع في خطر الإغفال؟
هل لنا أن نعرف عن أي “ربيعٍ” يتكلّم العالم “المتمدّن” ومسلمو ومسيحيو هذا المشرق يدفعون من أرواحهم ومن أوابد تاريخهم، لتُطمس هوية العيش الواحد في هذا المشرق؟
هل لنا أن نعرف لماذا يجب أن تكون سوريا سفينة العبور إلى فراديس تفترضها فقط عقول البعض، وهم الآتون من مغارب الأرض ومشارقها؟
هل لنا أن نفهم كيف يفسّر العالم “ديمقراطية” خطف المطارنة يوحنا وبولس، والصمت الدوّلي المطبق في الكواليس والأروقة الدولية تجاهه وتجاه تهجير إخوتنا، لأنهم مسيحيون؟
نقول كلّ هذا، ونحن على الرجاء الوطيد بأن تعود سوريا آمنة سالمة، ويعود إنسانها المهجّر إليها.
نقول هذا وكلّنا يقين بأن رنين المعول في مشرقنا أفصح من ضربة السيف.
نقول هذا ونحن مزروعون في بلادنا ومنغرسون فيها، وحتى ولو جارت الأيام على إخوة لنا فتركوها جغرافياً، إلا أن ذكراها والتصاق القلب بها هو الذي يعود بكلّ مهاجرٍ إليها.
نقول هذا وفي قلبنا وذهننا وكياننا وحدة تراب بلادنا ووحدة حال إنسانها.
نقول هذا وكلّنا رجاء ويقين بأن سوريا هي موطن الأبجدية، وناسها يتقنون أبجدية المحبّة مهما جار الزمن، ويقومون كطائر الفينيق من تحت ركام التاريخ.
ومن هذه البقعة الغالية نقول للسيّد الرئيس، إن سوريا صامدة بصمود قيادتها وشعبها وجيشها. وهي صامدة باقية مرتعاً للنور بقوّة الأمل والثقة المنبعثة من هذه الوجوه الطيبة، التي خرجت من رحم هذا الوادي ورأت النور تحت قبّة سماء هذا الوطن لتقول للملأ أنها ستبقى وسيبقى الوادي ربوعاً تخفق سلاماً وطمأنينةً وتوقاً لذكرياتٍ حلوة.
سلامي القلبي لكلّ بقعة من هذا الوادي.
سلامي لناسه الخيرين الطيّبين.
سلامي لهم بالمسيح الرّب الذي يقوّي ضعفاتنا ويمسح دموعنا ببهجة قيامته.
سلامي لتلك القرى الوادعة التي تغفو تحت شفاعة مار جرجس شفيع الدير وتستظل بحماية البتول مريم، سيّدة هذه الأيام المباركة.
سلامي لأبنائها ولرعاتها، الذين أزورهم لأقول لهم أن غنى كنيسة أنطاكية هو بالبشر قبل الحجر. وأنهم أحجارٌ حيّةٌ في كنيسةٍ حجر زاويتها يسوع المسيح، وهو محور حياتهم وحياتنا.
صلاتي الحارة أرفعها اليوم من أجل الأرواح الطاهرة التي سقطت على مذبح الوطن.
صلاتي وعزائي بالمسيح يسوع إلى كلّ أمٍ وأبٍ وقريب اكتوى قلبه بفقدان عزيزٍ.
أضم قلبي إلى قلوبكم، وأرفع صلاتي أن يمسح الله من عيونكم كلّ دمعةٍ وأن يبلسم قلوبكم بندى عزائه الحق.
سلامي لكلّ القلوب الطيبة التي استقبلتنا على الطريق وفرشت لنا قلوبها مع زهر محبتها. وشكري العميق أوجّهه لكلّ من تعب في سبيل إنجاح هذه الزيارة.
أشكر السادة المطارنة ورئاسة الدير والفريق الإعلامي المرافق لنا، كما أشكر أيضاً الجهّات الرسمية التي تتعب لكيّ تتكلّل هذه الزيارة بالنجاح.
سلامي أيضاً إلى أبناء وادينا في دنيا الانتشار.
سلامي القلبي لهم ولكم، إخوتي الحاضرين معنا في هذا اليوم البهج.
أقول لكم جميعاً، إخوتي سكان هذا الوادي والمتغربين عنه: “إن أيديكم هي التي قطفت كرومه وعنبه، وهذه الأيدي هي التي امتشقت القلم، لتبحر في فضاءات العلم والأدب، ولتمخر فضاءات هذه الدنيا طلباً للقمة العيش. إن أيديكم هذه، في الأمريكيتين وأوروبا وأستراليا وسائر بقاع العالم هي التي جمعت التبرعات من أجل الأهل في الديار الأم وهي نفسها ادخرت من مالها وأتعابها لخير أوطانها.
وهذه الأيدي نفسها تكتب نشيد عشقها للديار الأولى وتعلّم أبجدية الوطن وحب ترابه للأبناء. إن هذه الأيدي هي سليلة تلك التي نحتت حجارة كنائسها وعمّرتها، قبل أكثر من مائة عام، ومنها هذه الكنيسة التي تضمّنا الآن؛ هذه هي سليلة تلك التي ابتاعت أجراس الكنائس وحملتها ورفعتها وعلّقتها وقرعتها رغم شظف تلك الأيام. وهي نفسها سـ”تربّع” أجراس الكنائس وستقرعها بقوة وعنفوان، بلا أدنى خوف، وستعزف دوماً نشيد محبتها للآخر وانفتاحها على لقياه وإخلاصها للوطن واتّكالها على الله، له المجد والرفعة إلى أبد الدهور، آمين”.
الشكر لكم وبركة الرب فلتكن معكم.