القضيّة الأولى
لكلّ شعبٍ قضيّة، ولكلّ فردٍ قضيّة. هدفٌ، يصبو إليه ويسخّر كلّ ما تطاله الأيادي للوصول إلى أن تتحقق القضيّة. ما زالت لليوم هنالك شعوب تسعى، وقد مرّ زمنٌ طويل على سعيهم واستنفدوا أغلب السبل لتحقيق المرجوّ، وما زالوا لليوم يجاهدون بدمهم وأولادهم ومنازلهم وأراضيهم في سبيل تحقيق وجود “وطن”. مدركين إن ضاعت القضيّة ضاع الوطن.
للهراطقة هدف وقضيّة قال عنهم الرّب إنهم يطوفون البحر والبرَّ ليكسبوا دخيلاً واحدًا ومتى حصل ما يصبون إليه يجعلونه ابنًا لجهنم ضعف ما هم عليه ( مت 15:23)، وبولس الرسول عانى من الذين لا يحتملون التعليم الصحيح بل بحسب شهواتهم الخاصّة يجمعون لهم معلمين ليصرفوا مسامع الناس عن الحقّ فينحرفوا إلى الخرافات (2تيم 4:4) أو متمرّدون يتكلمون بالباطل لخدعوا العقول (تيط 11:1). المهم أنّ الهراطقة يجهدون في سعيهم ليصيّروا الناس أولادًا لإبليس.
ما قضيّتي؟ كان لإنسان غنيّ شبه قضيّة ” ماذا أصنع لكي اخلص؟” لكنّه رأى أنَّ قضيته الأسمى كانت تتعارض مع سؤاله، فتخلّى عن السؤال والمطلب. لقد سار خلاف ذاك الملك الذي قال :” واحدةً سألت الرّب، وإياها ألتمس، أن أسكن في بيت الرّب جميع أيّام حياتي، لكي أبصر بهاء الرّب وأتعاهد هيكل قدسه” (مز 6:26).
ما هو الهدف الذي أسعى لتحقيقه في حياتي، كمؤمن، كراعٍ، كمؤسّسةٍ مسيحيّة؟ ما هيّ القضيّة الأولى التي أودُّ أن أسخِّر كلّ طاقتي وجهدي ومالي من أجلها؟ وعقلي وذهني لا يشغله إلّا هذه القضيّة وهذا الهدف؟
قضيّتنا الأولى والوحيدة، كمسيحيّين، أن نكون مع الرّب دائمًا، أن يتحقّق خلاص الله الفادي فينا و”يبصر كلّ بشرٍ خلاص الله” ( لو 6:3). فهل الواقع الذي نعيش يُظهر حقيقةً أنّنا نسلك بمقتضى مشيئة الله أم بخلافها؟
إذا تأمّلنا بمسيرتنا الشخصيّة الفرديّة فما الأمر الذي يستحوذ على تفكيرنا عند نهوضنا من النوم؟ ما الخطوة الأولى التي نقوم بها، وما هو القول الذي نتفوّ? به؟ في الظهر والمساء وما بينهما؟ كم من مرّةٍ سألنا أنفسنا عن مشيئة الله في كلّ ما نفعل وما نتعامل معه؟ كم من مرّةٍ في النهار سُبينا إلى أقوالٍ أو أفكارٍ تتنافى مع كوننا رسل المسيح وشهودًا لقيامته؟ أو مارسنا أعمالاً لا تتوافق مع قضيّتنا؟ كم من مرّة نسينا الهدف الذي نذرنا أنفسنا لتحقيقه؟
أمّا على صعيد المجموعات أو المؤسّسات التي أنشئت بهدف يخدم البشارة المسيحيّة ونقل الخلاص بشكلٍ أعمّ إلى الناس، فما هي النتائج على الصعيد البشاريّ عدا نسب النجاح وأوجه الانفتاح على المجتمع؟ الديون والتكاليف الباهظة التي ترزح تحتها المؤسّسات ألا يجعل منها الشرير أهواءً جديدة تخضع لتأثيراتها فتضيع معها ” القضيّة” التي من أجلها أنشئت ويصير الهدف هوىً جديدًا “بقاء المؤسّسة”، به أنسى مقصدي، وعندها يتصرّف معي المموِّلُون مثل أسيادٍ وأصير والمؤسّسة إلى عبوديّةٍ بدل أن نكون منبرًا للحريّة، التي بالمسيح يسوع. وأدّعي أنّ الهدف دائمًا يبرّر الوسيلة ، فإن كان الهدف مشوَّشًا فما يصير حينها بالوسيلة؟
ما الجهد المبذول؟ أين الدم؟ أين الممتلكات المبذولة في سبيل قضيّتنا؟ أين السعي لدعوة الذين في الظلمة وظلال الموت إلى نور الخلاص؟ الاستكانة موتٌ والبرودة صَلْبٌ جديدٌ للكلمة المتجسّد. أين نحن من أولئك الذين لا تغمض جفونهم طالما هنالك محتاج، بغضِّ النظر عن نوع الاحتياج؟
بالطبع هذا على سبيل التذكير لا الإدانة. إنّها دعوة للاجتهاد على إعادة توجيه الفكر والإرادة إلى المبدأ الأصل للتحرّر من القيود والفرار من التشويش الآتي من العالم إلى ما يوافق خلاص النفوس، مدركين أنّه إن ضاع هدفنا خسرنا خلاصنا وفرادتنا كشهودٍ حقيقيّين للسيّد، وفقدنا دعوتنا أن ننادي باسم الرّب “ليكن اسم الرّب مباركًا من الآن وإلى الأبد. آمين “.
نشرة الكرمة
26 تشرين الأول 2014