إنه ليسعدني أن أتحدّث في هذه الأمسية الى تلك الوجوه العزيزة التي طالما رغبتُ أن ألتقي بها لأغتذي من إيمانها ومحبّتها. فشكرًا للربّ الذي شاء أن يجمعنا وشكرًا لكم على استقبالكم الأخويّ لي فيما بينكم.
إن الموضوع الذي أسند إليّ، ألا وهو “المسيحي أمام تحديات العصر”، واسع جدًا ومتعدد الجوانب. فالتحديات التي يجابه بها عالم اليوم المؤمن كثيرة، ولكنني سأكتفي بتعرّض سريع لثلاثة من مجالاتها، ألا وهي مجال الإيمان، مجال العدالة، ومجال الجنس.
أولاً: مجال الإيمان
تهز عالم اليوم أزمة إيمان، واقصد هنا الإيمان بالله، الذي هو حجر زاوية كلّ المعتقدات المسحية. موجة إلحاد عارمة تجتاح عالم اليوم وتبعد الكثيرين عن الله. ويتخذ هذا الإلحاد وجهَين، الوجه النظري الذي هو إنكار صريح، مذهبيّ، لله، واعتبار الكون الموجود الوحيد؛ والوجه العمليّ، الذي يتنكّر لله بالفعل إذ إنه يوحي للكثيرين أن يسلكوا وكأن الله غير موجود، رغم اعترافهم اللفظيّ به. هذان الوجهان من الإلحاد يتحديان المسيحي اليوم. فما هو موقفه منهما؟
1- الإلحاد النظري ومواجهته
إذا أخذنا الإلحاد النظريّ، رأينا أن له دافعين أساسيّين. أحدهما هو إنكار الله باسم العلم، والثاني هو إنكار الله باسم القيم الإنسانية.
فمن جهة نجد إدّعاء بأن التفسير العلميّ للكون وللإنسان يغني عن الإيمان، لا بل يتعارض وإياه. كأن يقال مثلاً إن التطوّر يكفي لتفسير نشوء الكون وظهور الحياة وترقّيها ثم بروز الإنسان، دون أن تكون حاجة إلى الإيمان بخالق. هذا هو الوجه العلمويّ للإلحاد.
ومن جهة أخرى نرى أن دعاة الإلحاد المعاصر، أمثال نيتشه وماركس وفرويد وسارتر، يرفضون الله لأن الاعتقاد به، بنظرهم، يعطّل القيم الإنسانية كالحرية والكرامة، ويحكم على الإنسان بالضعف والخنوع والعبوديّة والإتكّاليّة الطفليّة.
فما موقف المؤمن من هذه الادّعاءَات؟
عليه، بنظري، ان يجابهها بتواضع وصفاء، بدون أية انهزامية أو خوف. فإن الله الذي يؤمن به إنما هو ملء الحقّ، ولذا فعلى المؤمن به أن يكون مستعدًا ليتحرّى الحقّ أينما وُجد، حتى عند الملحدين، لأن الحقّ الذي عندهم إنما هو من الله وإليه، وإن إمتزجَ بالضلال. فإذا نظر إلى الأمور من هذا المنظار، أدرك أن ما تتصدّى له المواقف الإلحاديّة إنما هو، بالواقع وإلى حد بعيد، مفاهيم عن الله لا تمتّ بصلة إلى الإله الحيّ الحقيقي، ولكنها لا تميّز بين تلك المفاهيم المغلوطة، التي ترفضها بحقّ، والمفاهيم الصحيحة، التي غابت عنها لأن المؤمنين – أو الذين يسمّون أنفسهم كذلك- لم يظهروا غالبًا للناس الوجه الصحيح لإيمانهم، بل خانوه وزيّفوه، سواءً بتعابيرهم عنه أو بسلوكهم المدّعي استلهامه، أو على الصعيدين معًا.
أ- مواجهة الإلحاد العلموي
فالتناقض المزعوم بين الإيمان والعلم مردّه إلى حدّ بعيد إلى كون المؤمنين خلطوا، في كثير من الأحوال، بين الصعيد العلمي والصعيد الإيمانيّ، فناهض بعضهم مثلاً، بضراوة، نظرية كوبرنيك وغاليلي في الفلك ونظرية دارون في التطوّر، مستندين إلى الكتاب المقدس، كما لو كان الكتاب المقدّس كتاب نظريات فلكيّة أو بيولوجيّة (كان غاليلي يردّ عليهم بحقّ، أن الكتاب المقدّس ليس همّه أن يعلّمنا ما هي أحوال السماء، بل أن يرشدنا إلى السبيل الذي يؤهلنا للسماء).
تحدّي الإلحاد العلمويّ يضطرنا إذًا إلى التمييز بين الصعيدين، فنتخلّى عن فكرة إله يغنينا عن البحث العلميّ الشاقّ الرصين معطّلاً بذلك الطاقة العقلية التي وهبنا إياها من لدنه، ونترك بالتالي للعلم مجاله الخاصّ، مجال تقصّي ظواهر الكون وتحليلها وربطها بعضها ببعض واكتشاف نواميسها، فيبقى هكذا للإيمان مجاله الصحيح، مجال كشف أصل الوجود وغايته ومعناه. عند ذاك، إذا أخذنا العلم على مجمل الجدّ في ميدانه واعتبرناه من هبات الله العظيمة للإنسان، وتركنا له مجاله كلّه، لا بل إذا ساهمنا مساهمة فاعلة في تقدّمه، أمكننا أن نشهد، مع الأب تيار دي شاردين Teilhard de Chardin، ذلك المفكر المسيحي الذي كان، بآن واحد، أحد أقطاب علم تطوّر الكائنات الحيّة في زمانه، أن التطور، الذي يفسّر تاريخ الكون، يحتاج بدوره إلى تفسير كما أنه يحتاج إلى ما يعطي معنى لوجوده وفعله ومساره، وأن الخطّ التصاعديّ الذي سلكته المادة، إنطلاقًا من غبار ذرات الهيدورجين الخفيفة التي تكوّنت منها قبل نحو عشرة مليارات من السنين، وسمت به تدريجيًا فوق ذاتها إلى أن حقّقت “قفزة الحياة” وانتقلت بها من أشكالها البدائية إلى أشكالها الأرقى تنظيمًا وتعقيدًا إلى أن برزت” قفزة الفكر” القادر على وعي ذاته واستعادة تاريخ المادة والحياة، قلت إن هذا الخطّ التصاعديّ الخلاّق الذي ينمّ عما يشبه برمجة خفيّة تعمل عبر النواميس والصُدَف، ليس مجرد حصيلة تفاعل قوى غاشمة، إنما هو، في آخر المطاف، ترجمة لحركة الخلق المستمرة (“أبي يعمل إلى الآن…” يوحنا 5: 17) النابعة من إله هو ألف التطور وياؤه، إله يعمل في صميم مادة هو أصل وجودها ومرجعه، فيعطيها أن تتمخّض بآلهة يشاركونه في الخلق ويشتركون في حياته ومجده.