“ملء الحياة” في زمن العولمة
(قراءة عامة وسريعة)
المتتبّع لتطور مفهوم القيم الأخلاقية وتغيّرها يلاحظ ثلاثة نظم أو مناهج أخلاقية تلعب دوراً مؤثراً، أقلّه في بلدان المشرق العربي.
قيم المنظومة الغربية القائمة على إقصاء الدين والله من الحياة العملية، وقصرهما على النطاق الشخصي، وعلى اعتبار الإنسان مصدر القيم وقاعدتها، وإعطائه حرية مطلقة في تبرير قيمه وعيشها. في نظام كهذا، تصبح مرجعية القيم محصورة بالإنسان، ممّا يؤدي إلى تراجع في المستوى القيمي وتضخّم للأنانية. تصير القيم على قياس الإنسان، بدلاً من أن يسمو هو ويرتفع ليبلغ رفعتها. في مناخ كهذا، لا يعود ثمة من أمر مستغرب مهما كان نافراً وغريباً ومستهجناً.
يقول إيماننا المسيحي إن الإنسان قد سقط بعد خطيئة الجدّين الأولين. سقط من حالة النعمة والصورة الإلهية السليمة التي تبتغي المثال، إلى حالة الخطيئة والصورة الإلهية المشوّهة التي فقدت مثالها. نقصد بالإنسان الساقط، الإنسان الذي لم يعد الله مرجعه، ولم يعد هو على مثال الله. لذلك يرتضي الصورة المشوّهة التي هو عليها ويعتبرها المثال. فلا عجب إذن أن تصل الحضارة الغربية، التي ترتضي الإنسان الساقط نموذجاً ومثالاً، إلى تفكك للعائلة وعزلة قاتلة للفرد وغياب للمعنى وابتداع مستمر لصرعات جديدة واعتبار الأسود أبيض وانقلاب للمفاهيم.
النظام القيمي الثاني يحترم الحرية الشخصية ويتمسك، على المستوى التشريعي والقانوني، بالقيم الروحية المعروفة. هذا تتلمّسه اليوم بعض الدول الشرقية، وبالأخصّ روسيا، حيث النظام العلماني سائد على المستوى السياسي، والتأثير الأخلاقي، المرتبط بالروحانية الأرثوذكسية، مايزال موجوداً في وجدان الشعب. لا يُشَرْعِن هذا النمط ما يخالف القيم التي استلمتها الإنسانية من الله عبر الدين وعمل الله في التاريخ البشري. في نظام كهذا لا يُقتَل المِثلي، على سبيل المثال، ولكن لا تُعتبر المثلية أمراً شرعياً وطبيعياً، ولا تُدرِّس مناهجه التعليمية أنواعاً ثلاثة للعائلة، كما في بعض الدول الغربية. ما يزال هذا النظام في طور النشوء، مما لا يسمح بمعرفة تأثيره على الشخص والمجتمع بعد.
النظام الثالث مؤسَس على الدين الإسلامي بصفته المرجع الأساس للتشريع. وتلك حال الشعب العربي، بمسلميه ومسيحييه، المتمسك بدينه والباحث عن مثاقفة متوافقة مع قيمه، النابعة من الدين، والمتطلعة، في الوقت نفسه، إلى اكتساب التقدم الذي وصلت إليه الدول الرائدة في هذا المجال.
ولأنّ قيمه وتراثه يصطدمان بالنظام الغربي، الذي ينتشر ويعمّ عبر وسائل كثيرة، تقف في مقدمتها وسائل الإعلام العامة والشخصية، فهو يختبر توتراً يصل إلى حد الانفجار أحياناً. فترى في بلدان المشرق العربي من يهرب من مواجهة تأثيرات الحداثة، القيمية منها بالأخصّ، متخذاً الاعتكاف والتشدّد سبيلاً له، خوفاً من المستجدات التي تهدد القيم والتراث والثقافة. ومنهم من هو مسحور إعجاباً بكلّ ما يأتي من الغرب، فيتبنّاه دونما فكر نقدي، ويرمي بكثير ممّا في ثقافته من أصول وحسنات، غير عابىء بها؛ ومنهم من يحيا فُصاماً في محاولة تبنّي الجديد كما هو وتبريره أخلاقياً بإسباغ لون ديني عليه، لكي يريح ضميره به.
في الواقع، تعيش بلداننا، وكذلك بلدان العالم الثالث عموماً، توتراً شديداً. فلا هي قادرة على تبنّي الحداثة ولا هي قادرة على رفضها!
صدق من قال إنّ العولمة ستجعل الدول المتقدمة تغزو الدول المتأخرة حتّى في أخلاقها وثقافتها. فما يحدث اليوم في أي بقعة من الأرض يراه ويتفاعل معه كل سكان الأرض.
نحن، إذن، أمام طرق ثلاث في تحديد القيم والعمل: فإمّا أن يُطلق العنان للحرية، فتتفلت وتغيّر القيم، على المستوى المجتمعي والشخصي؛ وإمّا أن تُحدَّد للمجتمع قيم قانونية شرعية تلزمه بالانضباط بها، وتترك للفرد حريته الشخصية في اتباعها أو رفضها على صعيده الذاتي؛ أو تقيّده والمجتمع بقيود صارمة طاعةً لقيم مطلقة.
***
ويبقى سؤالنا ماذا تستطيع المسيحية الشرقية أن تقدم في هذا المجال؟
بدءاً نقول، مع المطران جورج خضر، إن المسيحيين في العالم العربي منكّهين بالإسلام. فهناك قيم اجتماعية عديدة مشتركة بين المسلمين والمسيحيين مصدرها الإيمان بالله وبالقيم الأخلاقية المشتركة بين الدينين، إضافة إلى تاريخ عيش مشترك طويل تأثر الطرفان فيه، كلّ بالآخر.
فمسيحيو المشرق متدينون، والله حاضر في حياتهم مهما كان الفرد منهم بعيداً عن الممارسة الدينية التقليدية. كلمة الله حاضرة في حياتهم بدءاً من التحيّات والسلامات وليس انتهاءً بها. لا يقبل الوجدان المسيحي المشرقي ما يتنافى مع إيمانه، وحين يصطدم معه يحاول إيجاد جواب يرضي ضميره قبل أن يرضي عقله. إلى ذلك، فانفتاح المسيحيين المشرقيين على سبل الحضارة الحديثة يوقعهم أحياناً في لَبس لا يدركونه دوماً، فيُقبلون على أنماط للحياة غربية حديثة، معتبرين إيّاها متوافقة مسيحياً كونها آتية من الغرب، الذي ما يزال كثيرون يظنونه مسيحياً، وهو في الواقع قد نبذ المسيح منذ مئتي سنة على الأقل. بينما تناضل الكنيسة فيه نضالاً شاقّاً لإبقاء المسيح حاضراً هناك، يظن كثيرون عندنا أن الغرب يوزع المسيح على العالم!!
قد تستطيع الروحانية المسيحية الشرقية، والأرثوذكسية منها بخاصة، المساهمة في هذا الحقل الشائك، كونها تفرّق بين المرض والمريض. فهي تحتضن الخاطىء بمقدار ما تحارب الخطيئة، وتسعى إلى شفاء الشرّير فيما تقاوم الشرّ. تبقى القيم الإنجيلية عندها مطلقة، لكنها تعي جيداً مسيرة الإنسان في تبنيها، وتميّز بينها وبين السبل المؤدية إلى تطبيقها من زمن إلى آخر. كما إنّها تعتبر القيم والأخلاق خادمةً للإنسان، وليست سيفاً مسلطاً على عنقه. “فالإنسان للسبت وليس السبت للإنسان”(مر2/27). خلاص الإنسان الشخص عندها الهمّ والغاية والهدف. نظرتها الأخلاقية قائمة على المبدأ القائل بما يوافق خلاص الإنسان، ويعطيه “ملء الحياة”(يو10/10).
يحتاج البشر إلى مثال، ولا يمكن لهم أن يكونوه بأنفسهم. هذا لا يأتي إلا من فوق، من الذي خلق الإنسان. إذا فقد البشر المثال الإلهي استبدلوه بما عندهم، وكرّروا خطيئة آدم وحواء.
المطران سابا (اسبر)
