شهادة من قلب المعاناة – المطران سابا (اسبر)

mjoa Wednesday August 19, 2015 65

شهادة من قلب المعاناة – المطران سابا (اسبر)
أن تحيا على حفافي الخطر، فأنت معرَّض للشهادة في كلّ حين. وإن كنت تقبل، بفرحٍ، حياتَك هذه رسالة محبّةٍ لمكسوري الحرب القذرة التي تشهدها بلدك، فأنت تتمثّل بمعلِّمك، الذي فضّل النزاع الأخير، لا على فراش وثير، بل على الصليب، حبّاً بالبشر، ولو علّقوه على الخشبة، لكي يوقفوا دفق محبّته التي كانت تحرقهم. “ما من تلميذٍ أفضل من معلّمه”. أنت تفرح بما تيسّر لك من شهادة تماثلك وسيّدك، المصلوب والقائم في آن. وتفرح بأن ترى أطفالاً وأبرياء يبتسمون من جرّاء خدمتك لهم، وتشهد حقاً وفعلاً أنّ الحياة أقوى من الموت.

monkأن تقول، فعلاً، “إنّ الأغاني لسه ممكنة”، يعني أنّ القيامة، التي تؤمن بها، متجسدةٌ في حياتك أولاً، وأنّك تزرعها في كلّ مكان تتواجد فيه. أنت، بما تحمله من ربّك المنتصر على الموت، واحةَ رجاء للذين يئسوا من مآسي الحرب وويلاتها.
لا يعني هذا أنّك لا تتعب، ولا يعوزك الرجاء أحياناً. لا يعني أنّك لا تذوق المرّ و لا تختبر اليأس مرّات، بل يعني أنّك تدفع ثمن أمانتك، لإيمانك ووطنك وشعبك،دماً لا كلاماً، نكرانَ ذات لا تعليماً فوقياً، شهادةَ حبٍّ مستمرة، تبثّهم أنواراً في قلب العتمة التي يحيون فيها.
راودتني هذه الأفكار بعد أيّام معزِّية، أمضيتها برفقة أربعين من أولادي الروحيين، الذين يخدمون في دائرة التنمية والعلاقات المسكونية البطريركية، في كلٍّ من درعا وإزرع. قضوا في ضيافة المطرانية ثلاثة أيام،ملبّين دعوتي إيّاهم، في إطار برنامج “أيام منعشة”، الذي أطلقته المطرانية بدءاً من شهر آب وحتّى نهاية أيلول. هدف البرنامج أن يقضي عدد من عائلات الأبرشية، خاصّة التي شهدت وتشهد أوضاعاً صعبة وأليمة، أياماً في مناخ استجمام روحي ونفسي. بدأ هذا البرنامج خجولاً، لكنْ، واعداً، مع الرعيتين الأوليتين.
كانت هذه الأيام القليلة منعشة حقاً لهم ولي. فهم يعيشون في مناخ مأساوي. يتحسّبون للأسوأ في كلّ لحظة، تمطرهم القذائف في أي وقت، قد يُضطرون إلى وضع أولادهم في منطقة آمنة، ويبقون هم يؤدون شهادة المحبّة الإنجيلية وواجبهم الوطني تجاه أبناء بلدهم المعذّب، مسلِّمين حياتهم لمن منحهم إيّاها.
صلّوا ودرسوا الكلمة الإلهية وغنوا ورقصوا وناموا بهدوء ما عرفوه منذ زمن طويل. علامات الفرح والسرور كانت لامعة في وجوههم. لم يأتوا ضعفاء منكسرين مسحوقين، بل، وصلوا بكل ألقهم وزخمهم البشريين، مخبئين معاناتهم تحت صبر عميق وتسليم كامل للربّ المحيي. تلمس محبّتهم لخدمتهم بسرعة، تراها دفّاقة فيهم، فهم لا يستطيعون أن يخفوها مهما تكلّموا بالواجب والضرورة وما إليهما. عزّونا بقدر ما تعزّوا، وأفرحونا بقدر ما فرحوا.
شكراً لله الذي أعطانا هذه البركة. ما رسالة الكنيسة سوى رسالة المسيح ذاتها، تلك التي عبّر عنها بلسان النبي إشعياء، في مستهل إنجيله، ألا وهي تبشير المساكين، وتعزية منكسري القلوب …”(لو4/18). وما غاية برنامج “أيام منعشة” سوى اختبار القليل من هذه الكلمات، وإدخال شيء من الفرح إلى القلوب التي هجرها، وبعض طمأنينة إلى النفوس التي فقدتها. ومن سوى الذي أتى إلى أرضنا حبّاً بنا، ومات مشارِكاً إيّانا معاناتنا الأقسى، وقام مانحاً لنا طاقة الحياة الحقّة؟ من سواه الذي أمر العاصفة فهدأت “وساد سكون عظيم”؟ من غيره قادر على إدخال السلام الحقيقي إلى نفوسنا، ومدّنا بطاقة المحبة والاحتضان والتحنّن؟ على الكنيسة أن تشهد دوماً بأن المحب|ة موجودة وممكنة.
أضفى عيد رقاد السيدة هذا العام فرحاً إضافياً بفعاليَتَي أطفال وشبيبة كشّافة رعيّة السويداء. لقد نثر كشّافتها الفرح والبهجة في الشوارع المحيطة بالمطرانية، في تطوافهم الذي تلا قدّاس العيد. عزفوا ألحاناً صلاتية ووطنية وعالمية، قالوا عبرها إنّنا مازلنا نريد الحياة بملئها، وإننا ما زلنا نمتلك الرجاء بأنّ النور أقوى من الظلام. أمّا كورال أطفال الرعيّة، السبعيني العدد، فقد أمتع الحضور الكبير، الذي أتى يسمعه،بترانيم وأغان تراثية ووطنية، أثّرت في المستمعين إيجاباً ومدّتهم بجرعة تفاؤل. طالما أنّ البلد قادر، من بعد سنوات حرب خمس، على إنتاج أطفال يغنون، بإمكانيات غاية في التواضع، للحبّ والجمال والحياة، فالأمل حيّ.
ما من قيامة إلا من بعد موت. ويكفيك منها أن يشرّفك ربّك بأن تشهد بواكيرها، ولو لم يتسنَّ لك أن تقطفها. لا تقل أنا فقير، فإلهك قادر “أن يقيم من الحجارة أولاداً لابراهيم”. لا تنسَ أن الرسول العظيم قال، من بعد خبرة، إنّنا بالمسيح “فقراء ونُغني كثيرين”. آمِنْ بأنّ “فلس الأرملة” الذي بحوزتك، إن باركه الربّ، يُشبع آلافاً. ليس المهم كمّ ما تقدّمه، بل نوعيّته.

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share