ما بعد الميلاد – المطران جورج (خضر)
اليوم المسيح يظهر متجسدًا من البتول، ومعنى ذلك أن النُّور كاملاً جاء إلى العالم. نستنتج أولاً أن النُّور لم يكن كاملاً قبل المسيح، كانت هناك تلمّسات للنُّور في كل الأمم، وآباؤنا قالوا ان هناك ظهورًا للمسيح في الفلسفة، وكان نُور كبير في الأنبياء. ولكن الفرق الأساسي بين العهد القديم والعهد الجديد هو أن العهد القديم كان فيه كلمات لله ولكن لم يكن فيه الله نفسه. كانت افتقادات للرب في القديم. اليوم يأتي هو نفسه ليقول لنا انه قريب وأننا شعبه وأن في كل انسان شيئًا من المسيح، ليس فقط في المسيحيين ولكن في كل مخلوق.
نحن في سرّ الله، وبصورة ما كلّ منّا كان في المسيح لما تجسّد. أما قال رسوله: «نحن مدفونون معه في المعمودية» (كولوسي ٢: ١٢)، وقد متنا معه ونقوم معه. ومعنى ذلك إذا أردنا التدقيق اللاهوتيّ، ان السيّد لما كان مصلوبًا كنا نحن أيضا معه مصلوبين، ولما دُفن كنا فيه مدفونين، ولما قام قمنا معه. ولكن ذلك كلّه يتحقّق بالمعمودية، أي اننا بناء على هذه الحقيقة التي أعلنت في تجسده وموته وقيامته، بناء على هذه الحقيقة التي أُعلنت، نحن نُحقّق الآن هذا الأمر إذا قبلْنا المسيح بالإيمان والمعمودية. هذا لا ينفي أن غير المعمّدين عندهم شيء من هذه المشاركة، لكن هذا يبقى في سرّ الله ولم يُعلن في الكتاب. الناس جميعهم مدعوّون إلى المشاركة الكاملة في حياة الله بالإيمان بإنجيل يسوع المسيح.
وثانيًا هذا يعني اننا لا ننتظر حقيقة أُخرى بعد المسيح. إذا كان الله قد ظهر كاملاً في بيت لحم، في نهر الأردن، على تلة الجلجلة، معنى ذلك أننا لا ننتظر شيئا آخر. غير أن هذه لا يعني اننا نتنكّر لفكر آخر إذا كان فيه شيء من الحقيقة كما قال أحد الحكماء: «كل شيء حقيقي بعد المسيح جاء من المسيح بشكل أو بآخر». أي اننا لا نضيف تعليمًا آخر على المسيح ولا ننقّح الإنجيل، لكن نتقبل في البشرية تعاليم وفنونًا وفلسفات توضح لنا الإنجيل. كلّما ازداد فهمنا في الحضارة نزداد فهمًا للإنجيل، ولكن الحقيقة موضوعة بين أيدينا في كنيسة المسيح ولنا أن نتقبّل كل فكر جميل وكل إحساس جيّد وكل ذوق سليم. ونحن إذا صرنا أكثر جمالاً في إنسانيتنا، وأكثر فهمًا، وأكثر عمقًا، نزداد في فهم الإنجيل. لكن الأساس موضوع وهو يسوع المسيح، ولا يضع إنسان أساسًا آخر. هذا أمر أساسيّ جدا لنبقى على هذه المسيحية التي نحن عليها.
يبقى أنْ نمارس لأن الانسان خاطئ: «الجميع أخطأوا وأَعوَزهم مجد الله» (رومية ٣: ٢٣)، أي تبقى في كل إنسان، ما دمنا في هذه الحياة، هوّة بين المسيح الذي آمن به وبين الحياة التي يعيشها. الانسان لا ينفّذ وصايا الله تنفيذًا كاملاً أو تنفيذًا في العمق. الإنسان خاطئ، لذلك يجب ان تتحقق المسيحية بوثبات، بتوبات، بنهضة متجدّدة في كل عصر حتى مجيء المسيح ثانيةً حيث يكون اللهُ «الكلّ في الكل» (١كورنثوس ١٢: ٦).
ولكن ما سوف يتحقّق بعد مجيء الرب في الكنيسة المجيدة أن يكون الله الكل في الكل. هذا هو معنى الكنيسة أن يكون الله الكل في الكل، في كل إنسان وفي مجموعة البشر. الكنيسة الآن ناقصة وضعيفة لأن الله ليس كلّ شيء فيها. في الكنيسة خطايا، في كل مدينة وقرية. لكنها صالحة في المسيح رأسها، وهي مجيدة كاملة، عروس لا دنس فيها لأنه هو يقدّسها وهي تقوم على الأسرار المقدسة. تظهر في جمالها بالمناولة، بالمعمودية، أي اننا ندنو من الكمال على قدر ما نعرف من أسرار الله في كنيسته المقدسة. وبعد هذا نتحيّر ونتردّد ونخطئ، ولكننا نسعى. الكمال المسيحي، كما قال عنه القديس غريغوريوس النيصصي، «الكمال المسيحي هو أن تسعى إلى الكمال».
في مسعى الكمال الذي نحن فيه نتقبّل المسيح مولودا من أجلنا. كل القضية المسيحية ان نُحوّل الكلام الإنجيليّ إلى حقيقة واقعة في النفوس، منفّذة فينا، في فكر كل واحد، في قلب كل واحد، في لحم كل واحد. وعند ذاك يمتدّ مولد المسيح ولا يكون حدثًا ماضيًا أو عيدا يأتي في الرُزنامة، ولكنه يكون واقعا حيّا نمارسه كل يوم.
جاورجيوس مطران جبيل والبترون وما يليهما (جبل لبنان)
نشرة رعيتي
27 كانون الأول 2015