اليوم الرابع: الخميس 22 شباط
الاب بيار الكاهن والنائب في البرلمان الفرنسي
المناضل لتأمين مساكن للمشردين والفقراء
مقدمة
في 23 كانون الثاني 2007 توفي عن 94 عاماً في باريس بفرنسا، وفي غرفة صغيرة تضوع منها رائحة الفقر والقداسة، الكاهن الأكثر شهرة في فرنسا بل في العالم والمعروف بالأب بيار.
وأقيمت له في 25 كانون الثاني في كنيسة نوتردام في باريس، جنازة حافلة تميزت ببساطتها وخشوعها، حضرها كبار رجال الحكم في باريس وجموع غفيرة من أبناء المدينة، وآلاف من أعضاء مؤسسة “رفاق عماوس” التي اسسها الاب بيار سنة 1949 لتأمين مساكن للذين بلا مأوى. وقد اتوا من عشرين بلداً من اوروبا والعالم ليودعوا أباهم وراعيهم الذي بذل حياته ليؤمن لهم حياة كريمة.
لمحة عن حياته
ولد الاب بيار، واسمه الحقيقي هنري انطوان غرويه، في 5 آب 1912 في مدينة ليون في عائلة ميسورة من ثمانية اولاد. كان الابن الخامس لتاجر حرير، لكنه تخلى عن حياته المريحة ليصبح راهباً. أتم دراسته في مدرسة الآباء اليسوعيين قبل سيامته راهباً كبوشياً وهو في التاسعة عشرة من العمر. لكن المرض ارغمه على ترك الرهبنة بعد وقت قصير من سيامته، والتحق بأبرشية غرونوبل حيث عيّن مساعداً لكاهن كاتدرائيتها.
في المقاومة السرية
عند اندلاع الحرب العالمية الثانية، انضم عام 1942 الى المقاومة السرية للاحتلال النازي لفرنسا، فساعد المقاومين في فيركور، وتمكن من تحرير جاك ديغول شقيق الجنرال شارل ديغول، وزوّر اوراق هوية لتهريب لاجئين الى خارج فرنسا. و”الاب بيار” كان لقبه في تلك المرحلة من المقاومة السرية، واحتفظ بهذا الاسم حتى وفاته.
بدأ حملته لمناصرة المشردين عام 1949 حيث اسس جمعية “رفاق عماوس”. وذاع صيته عام 1954 عندما ظهر على الهواء مباشرة للمطالبة بأماكن لايواء آلاف الاشخاص المهددين بالموت في اسوأ موجة برد قارس عرفتها البلاد تلك السنة. وأثار نداؤه الذي اطلقه من اذاعة اللكسمبورغ بالفرنسية موجة عطف واسعة عند الباريسيين وطلب منهم مساعدة فورية لانقاذ مئات الآلاف من اخوتهم المواطنين المهددين بالموت السريع من جراء البرد. طلب اموالاً نقدية وحرامات صوف والبسة دافئة وعين اوتيل روستسر لاستقبال العطايا. ولم تمضِ ساعة واحدة حتى تدفقت المساعدات بشكل منقطع النظير واكثر بكثير مما كان يتوقع. وعبّر الباريسيون بهذه المبادرة عن عمق المحبة المسيحية المتأصلة في كل منهم.
وتردد نداء الاب بيار خارج فرنسا فلبت النفوس الكريمة سريعاً النداء وانهالت مساعدات جديدة مكنته من انقاذ حياة مئات الآلاف من المشردين بلا مأوى بسبب ذيول الحرب المدمرة. ولم يوقف الاب بيار نضاله يوماً، ولم يعرف الكلل، فواصل مداخلاته في الشارع او عبر التلفزيون، او حتى داخل الجمعية الوطنية في كانون الثاني 2006.
ومنذ ذلك اليوم انطلقت حركة “رفاق عماوس” لبناء المساكن التي اسسها سنة 1949 وحرّكت حكومات البلدان ولبت صرخة الاب بيار: ان للانسان نفساً خالدة ولكن قبل ان تكلمه عنها قدم له قميصاً ومأوى. وانتشرت مراكز جمعيته “رفاق عماوس” بسرعة ونشاط في فرنسا وفي كثير من بلدان العالم. فصار له في فرنسا 113 مركز يعمل ويقيم فيها اربعة آلاف عنصر. وله مراكز اخرى في 47 بلد من بلدان العالم، يقضي الكثير من وقته في زيارتها وتفقدها وتنشيط عملها.
ومنذ خمسين سنة الى اليوم ما زال الاب بيار حبيب الفرنسيين والذين بلا مأوى. وفي تصنيف حديث اعتُبر الرجل الثالث في فرنسا بعد شارل ديغول والعالِم لويس باستور. وما زال صوته يرتفع ويحرك الدول لتزيد ميزانيات بناء المساكن في مخططاتها ويرتفع عالياً ليندد بالمظالم الاجتماعية والسياسات التي تسحق الانسان.
وسنة 1992 ارادت الدولة الفرنسية ان تقلده وسام “جوقة الشرف” لكنه رفض حتى سنة 2001، احتجاجاًَ على سياسة الحكومة التي رفضت آنذاك توزيع مساكن شاغرة على المشردين. واستجابت له اخيراً فقبل الوسام.
“ورفاق عماوس” والكلمة من الانجيل أي السائرون على الطريق والمسيح بينهم، هي حركة اجتماعية تضم فقراء لا مأوى لهم، يحاولون جمع المال لبناء مساكن من عمل ايديهم في اشغال صعبة وتعتبر مذلة مراراً في نظر عامة الناس: يجمعون اغراضاً من مكبات الزبالة ويصلحونها ويبيعونها- في البرازيل يرسمون ويبيعون لوحات – في لبنان يعملون صلبان للموتى الخ… ومن هذه الاشغال يجمعون اموالاً لبناء مساكن للمشردين وتأمين حياة كريمة لهم.
الاب بيار الكاهن
ويستمد الاب بيار هذا النشاط من كهنوته وحياته الداخلية مع الله…
حبه للصمت والصحراء
في جنازته وحسب وصيته وضع نعشه على ارض الكنيسة. وقام المطران بوضع البدلة والبطرشيل على النعش وقال: كاهناً كنت وكاهناً ستبقى…
كان يحب الصمت والخلوة ويعشق الحياة في الصحراء. يذهب الى صحراء الجزائر ويقضي اياماً طويلة في الخلوة، يتأمل في النجوم.
في عيده الثمانين طلب من مرافقيه ان يهدوه رحلة الى الصحراء…
سنة 1961 قضى اربعة اشهر في محبسة الاب شارل دي فوكو في بني عباس في الصحراء الجزائرية حيث جاء بحثاً عن السكون والوحدة.
وكان مشهوراً بانه يحمل كاميرا ويلتقط صوراً لكل جميل في الطبيعة ويقول: خذوا وقتكم لتتأملوا جمال هذا العالم.
نصير الفقراء
اتخذ الاب بيار من الالتزام والثورة ديناً له. اكتشف الاب بيار حب الآخرين في عيني والده الذي كان يقدم الفطور صباح كل احد للمشردين ويقصّ لهم شعرهم ويحلق ذقنهم. جعله كتاب ديكارت “المراهق المعذب” يعيد النظر في ايمانه قبل ان يكتشف دعوته خلال رحلة قام بها الى اسيزي. امضى الاب بيار حياته في خدمة المضطهدين. انشأ خلال الحرب في منطقة غرونوبل الفرنسية صحيفة سرية عرفت باسم “الاتحاد الوطني المستقل” كما ساهم في تهريب اليهود وأقام اول ملجأ للمقاومين. عام 1944، اصبح مرشد البحارة المقاتلين المتمركزين في الدار البيضاء في المغرب. قال الاب بيار المتمرد في هذا السياق: “ان بناء المساكن اكثر اهمية من بناء دور العبادة”.
رسول الامم
من الهند الى الولايات المتحدة الاميركية، ومن البيرو الى اورشليم، قابل الاب بيار كبار هذا العالم وقبّل صغاره. يقول الاب بيار في هذا السياق: “اريد ان اكون رجلاً يتحدث مع الآخرين حول المشاكل الكبيرة التي تواجهنا اليوم في العالم الاجمع”. في الواقع، استحال الاب بيار رسولاً للامل يجوب العالم كله. لم يتوقف الاب بيار منذ عام 1955 عن السفر ساعياً الى نشر افكاره وليحذّر الجميع من “الظروف السيئة التي يعيش فيها اكثر من مليار انسان في العالم، ظروف اسوأ من تلك التي يعيش فيها الحيوان”. فعقد مؤتمرات حول هذا الموضوع كما قابل ملوكاً ورؤساء من كل انحاء العالم. لكن نظره لم يغب ابداً عن الفقراء والمعدومين الذين يشاطرهم مأساتهم وويلاتهم. في خلال سنوات، انتشرت تجمعات “عماوس” في عدد من الدول الاوروبية والآسيوية والاميركية والافريقية، وفي كل مرة كان يلتقي فيها المتطوعين الذين يعملون في هذه الجمعية. كان يردد على مسمعهم: “الآخرون ثم الآخرون فالآخرون”.
الخاتمة
هذا الرجل الذي اصبح قبلة انظار العالم واستقبله الكبار والحكام والفنانون والملوك والعلماء وقدموا له مساعدات سخية كان يعيش وهو ينتظر ساعة الموت بفرح.
من كلمات الاب بيار
قبل اربع سنوات من موته، أي في عمر التسعين، وهو قابع في غرفته الصغيرة ويعلم ان ساعة فراقه الحياة قد اقتربت، طرح الكاتب لوك ادريان عليه هذه الاسئلة:
1 – في نظرك ما هي قمة البؤس؟
هي ما يمنع الانسان ان يكون انساناً بكامل انسانيته. صحيح ان للانسان نفساً خالدة، ولكن قبل ان تحدثه عنها يجب ان تؤمن له قميصاً يلبسه وسقفاً يأوى تحته.
2 – ما هي صلاتك المفضلة؟
السلام الملائكي وصلاة التبشير. اكررها عشرات المرات في النهار. ونشيد القديس فرنسيس الاسيزي للشمس، وانا ابن التسعين اردده بشغف: “تبارك اسمك يا رب لاجل اخينا الموت الجسدي الذي لن ينجو منه احد على الارض”.
3 – ما هي الاخطاء التي تحظى بمسامحتك ورحمتك؟
تلك التي لا تتم بوعي كامل. واردد كلمة صديقي دون هيلدر كمارا: “القديس ليس الذي لا يرتكب خطيئة، بل هو الذي يخطئ مليون مرة ويرجع تائباً مليون مرة ايضاً بتواضع وفرح”.
4 – لو كنت رئيساً للجمهورية ما سيكون مشروعك الاول؟
تحريك الشعب والسلطات العامة لبناء مساكن لمليوني عائلة.
5 – ماذا تكره بالأكثر؟
الكبرياء والاعتداد بالذات والاكتفاء بها.
6 – ما هو شعارك؟
اعمل ما يجب عليك ان تعمله ويصير اللي بدو يصير.
7 – واحدة من كلماتك المأثورة؟
عندما نضع يدنا بيد الفقراء نجد يد الله تمسك بيدنا الاخرى.
8 – ما هي وصيتك؟
امران جوهريان في الحياة لا يمكن ان نتخطاهما: الحب والموت
9 – كيف تحب ان تموت؟
وانا واعٍ ارى ذاتي اموت.
لمن يرغب :
– https://www.youtube.com/watch?v=RdSbV8oEgBk