خواطر بريطانيّة -1- المطران سابا (اسبر)
تضمّ أبرشيّة الجزر البريطانيّة وإيرلندا، الأنطاكيّة المستَحْدَثة، رعيّةً من الناطقين بالعربيّة، تَعُدُّ أربعمائة وخمسين عائلة مُسَجَّلة، وخمس عشرة رعيّة، وأربع إرساليات،ناطقة بالإنكليزيّة، ومن أصول بريطانيّة. مدينة لندن مركز الرعيّة الأولى والأكثر عدداً. كنيستها كبيرة وجميلة. استأجرتها الرعية من الكنيسة الأنغليكانيّة، بعقد يتجدد كلّ عشرين سنة، بينما تتوزّع الرعايا الأخرى على أراضي بريطانيا وإيرلندا.
يؤكّد القائمون على خدمة الرعيّة الكبرى وجود الكثير من العائلات التي قَدِمت إلى المملكة المتّحدة، قديماً وحديثاً، وهي غير مُسَجَّلة في قوائم الرعية. هذا يستدعي جهداً رعائيّاًمُجهِداً، من أجل متابعتهم والوصول إليهم، ورعاية علاقتهم بالكنيسة.
أمّا الرعايا الأخرى، التي تعود أصول عائلاتها إلى سكّان البلد، فقد انضمّت إلى الكنيسة الأنطاكيّة الأرثوذكسيّة، في تسعينيّات القرن الماضي، وكانت آنذاك تسع رعايا فقط. وقد روى الأب مايكل هاربر، رئيس المجموعة الأولى، قصّة انضمامها هذه، بتفصيلٍ ممتع، في كتاب طبعته تعاونيّة النور الأرثوذكسيّة، بعد أن ترجمه الأب يوحنا (جوزيف) بدّور،إلى العربيّة.
يعود السبب الرئيس في اكتشافها أصالة الكنيسة الأرثوذكسيّة، إلى ما شهدته كنيستها الأم، الأنغليكانيّة، من تحوّلات وتغيّرات جذريّة، في السنوات الأربعين الأخيرة. فقد هبّت رياح التغيير على هذه الكنيسة، في سبعينيّات القرن العشرين، وسرعان ما بدأت كرة الثلج تتدحرج وتكبر، بتسارع هائل. فخلال عقد من الزمن، فقط، بدأت بقبول المرأة في سلك الكهنوت، وكذلك المثليين والمثليّات، إلى جانب قضايا أخرى لا تتّسع هذه المقالة لها. رفض قسم كبير من شعب هذه الكنيسة وكهنتها هذه التحوّلات، وسعوا، بقدر ما استطاعوا، إلى إيقاف حركة التأثّر بالفكر الدنيوي الدهري السائد. وعندما أدركوا عجزهم عن تحقيق ذلك، تركوا كنيستهم، وبحثوا عن الكنيسة ذات الجذور الثابتة والأصيلة. فاكتشف بعضهم الكنيسة الأرثوذكسيّة، غير المعروفة كثيراً في بريطانيا، إلا في رعايا المهاجرين من بلاد أرثوذكسيّة، الذين يشكّلون، في الواقع، كنائس جاليات.
لماذا تأثرت الكنيسة الأنغليكانيّة بالثقافة الدهريّة إلى هذا الحدّ؟ قد يكمن السبب في أمرين: أوّلهما أنّها تعتمد مبدأ التصويت، على الطريقة الديموقراطيّة في اتخاذ قراراتها، حتّى الإيمانيّة. ما يعني أنّ اعتماد قرار ما أو تحديد إيماني ما، يتمّ بناء على عدد الأصوات التي يحصل عليها، لا على الروح القدس الحاضر في الكنيسة، ولا استناداً إلى تراث راسخ في استقامة الرأي ومعرفة الله. ففي العام 1984، رسم رئيس أساقفة كانتربري مجموعة من الكهنة، بينهم بعض المثليين، للمرّة الأولى. واعترف للصحافة بأنّه، شخصيّاً، لا يوافق على الكاهن المثليّ، ولكنّه رسمهم لأنّهم، وجماعتهم، يريدون ذلك!! أمّا السبب الثاني، فيعود إلى فَقْد الجذور الأولى للمسيحيّة، وتالياً فَقْد التقليد الشريف، الذي يحفظ استقامة الإيمان، ويقيه من الانحراف. فالتراث اللاهوتي المتين يساعد على حفظ استقامة الرأي، ومواجهة التحدّيات المعاصرة، بروح التمييز بين الثابت والمتغيّر في الإيمان وتعبيراته.
لطالما افتخرت الأنغليكانيّة، بأنّها لا شرقيّة ولا غربيّة، بل تجمع بين الاثنين. لكن تقهقرها السريع أمام موجة الحداثة، وما بات يُعرف الآن بما بعد الحداثة، أمر محزن جدّاً. تُعدّ بريطانيا البلد الأكثر إلحاداً في الغرب. والعلمنة الأوروبيّة، وإن تفاوتت في موقفها من الدين، بين بلد وآخر، إلا أنّها عندما فصلت الدين عن الدولة، أبعدت الله كليّاً عن المجتمع، وجعلته إله أفراد فقط. فصار الإنسان المرجع الوحيد للقيم والأخلاق والتشريع. حاول البابا يوحنّا بولس الثاني ورئيس أساقفة اليونان خريستوذولوس، في التسعينيّات، إدخال عبارة “جذور الاتحاد الأوروبي الثقافيّة مسيحيّة – يهوديّة”، في دستور الاتحاد الأوربي، ولم يفلحا. عندما يُستبعَد الله من التنظيم الاجتماعي، يفقد البشر المرجع الثابت الوحيد للقيم الاجتماعيّة والإنسانيّة. أن يكون الإنسان، وحده، مصدر القيم والتشريع، يعني أن ما من قيم ثابتة، وأن النسبية هي الحَكَم. نقول بلغتنا اللاهوتية إنّ البشر، حاليّاً، في حالة السقوط، وقد تجسّد المسيح من أجل إنهاضهم وعودتهم إلى حالتهم الفردوسيّة الأولى. لذلك، فهم عندما يستبعدون الله من حياتهم، فإنّما يُبعدون الحياة عنهم. وما تفكّك العائلة ومفهومها، في العالم الغربي، إلا أحد الأمثلة على ما يقود إليه غياب الله عن المجتمع.
في حديث مع أستاذة العقيدة في كليّة اللاهوت الأنغليكانيّة، وهي زوجة أسقف لندن (يُسمح بالزواج للأساقفة الأنغليكان) قالت إنّ العقيدة عندهم محميّة بالمجامع المسكونيّة السبعة. ولكن حريّة التفسير والاعتقاد، جعلت الأنغليكانيّة تحوي مروحة واسعة جدّاً ممّن يحملون اعتقادات مختلفة، قد تصل إلى حدّ إنكار العقائد الأساسيّة في المسيحيّة!! فتجد، على سبيل المثال، أسقفاً لا يعتقد بقيامة المسيح بالجسد!!!
لفتني تواضعها الجمّ، عندما سألتني، في معرض حديثنا عن تحدّيات الشبيبة عندهم، فقالت: ماذا تنصحنا بخصوص استعادة الروحانية، التي يبحث عنها شبابنا، لمواجهة تحدّيات الحياة المعاصرة؟
علمت من أحد الأساقفة الشباب أنّ النزاع حول كهنوت المرأة، لا يزال قائماً عندهم، وأنّ احتمال انفصال الكنائس الإفريقيّة، وعدد أتباعها بالملايين، أمر محتَمَل في زمن قريب. الغريب في الأمر أنّ هذا الأسقف يرفض كهنوت المرأة، الموجود في كنيسته حاليّاً، ومع ذلك فقد أُسندت إليه، مؤخراً، مسؤوليّة كنسيّة مهمّة!!
يطرح واقع الكنيسة الأنغليكانيّة، بحدّة، العلاقة ما بين الإيمان والثقافة. إلى أيّ حدّ قد تلعب الثقافة دوراً في تغيير الإيمان وتفسيره؟ ما هي الحدود التي يقف الاجتهاد عندها؟ أين دور الله في صياغة التعبير الإيماني ضمن بيئة دهرية متجذّرة، بعمق، في كلّ مناحي الحياة؟ كيف يؤثّر حضور الله، فعليّاً، في الكنيسة، ليقيها خطر الانحراف، من جهة، ويمنحها القوة، لكي تواجه التحدّيات الخطرة، التي يفرزها مجتمع الحداثة الدهري، الخانق روحيّاً، والذي يسود العالم تدريجيّاً. هل يمكن للمفهوم الديني أن يكون مستقلاً عن الثقافة العامّة؟ ألا تدفع الثقافة المنغلقة نحو تديّن منغلق، وعدائي، ومشوّه للإيمان؟ ألا تقود الثقافة المنفتحة نحو تديّن قد يصل إلى حدّ تطويع الإيمان لها، وإفراغه، تالياً، من مضمونه وروحانيّته؟
تكاد ترى، في الغرب،أنّ الإيمان صار كحقل من حقول الفلسفة، التي منشؤها ومرجعها الإنسان وحده. نحا الغرب هذا المنحى منذ الانشقاق الكبير، وتضخم دور العقل البشري، على حساب الروح القدس المنير والمقدِّس للعقل، في فهم الإيمان وصياغته والتعبير عنه. فغدا الإنسان المرجع الرئيس، وضعف الإرث اللاهوتي – الروحي الاستناري، فغاب فعل الله الحيّ، إلى حدّ كبير.
أمّا في الشرق، فبقي الله، الحاضر، بالروح القدس، في وسط كنيسته، الأول والأخير. كذلك، بقي مبدأ اعتماد أيّ قرار صادر عن مجامع الكنيسة، قائماً على صيغة “رأى الروح القدس ونحن”(أعمال الرسل 15). لكن الممارسة ليست بمستوى التعليم دوماً. قد يُخطئ المجمع الكنسي، باعتبار أعضائه بشراً، وغير مستنيرين بالضرورة، في حكم الواقع. لكن الإيمان يبقى محفوظاً بالتقليد الشريف الراسخ، وبالقدّيسين الذين يقوّمون الانحرافَ الحاصل. وحده الله الفاعل في قديسّيه، المستنيرين بالروح القدس، يحفظ الاستقامة في الكنيسة. قال ممثِّل الإمبراطور للقدّيس مكسيموس المعترف، في القرن السابع: “مئات الأساقفة وثلاثة بطاركة وقّعوا على المرسوم الإمبراطوري. ماذا تنتظر؟ لقد سقطت الأرثوذكسيّة”. فأجابه القدّيس: “أنا الأرثوذكسيّة”. وهذا ما تحقّق. فقد ذهب التعليم بالمشيئة الواحدة، الذي نادى به الإمبراطور، إلى غير رجعة، وبقي التعليم الأرثوذكسي بمشيئتي المسيح، الإلهيّة والبشريّة، سائداً عند كلّ الطوائف المسيحيّة، شرقاً وغرباً،حتّى الآن؛ وهو التعليم الذي دافع عنه القدّيس مكسيموس، ودفع مقابل موقفه هذا قطع يده اليمنى ولسانه، وهو في الثمانين من عمره!
أمام الخواء الروحي، الذي يشهده الغرب، ويعمّمه بثقافته، التي يعمّمها في كلّ الأرض، تصير مسؤولية الشرق الأرثوذكسي، ودينونته، أكبر، بكثير، ممّا قد نتصوّر.
07 آذار 2016