كلمة المطران سابا (إسبر) في جنازة والدة غبطة البطريرك يوحنا العاشر، السيدة روز موسي.
كاتدرائية مار جرجس – اللاذقية.
09/04/2016
يحضرني، في هذه السيّدة الفاضلة، الانتظام في تسيير أمور حياتها وبيتها وعملها، بدقّة فائقة، وجديّة لا تعرف الاسترخاء، ومثابرة لا تتوقف، ولا تتكئ لتلتقط شيئاً من الراحة.
حاضرة لكلّ شيء، في كلّ وقت وزمان. تواجه أعتى الأزمات برباطة جأش، وتعقّل كبير، وتماسك عاطفة، يندر أن تجدها مجتمعة في امرأة واحدة.
عرفتها منذ يفاعتي، بحكم الصداقة التي ربطتني وسيدنا بولس. كان استقبالها، دوماً، في غاية اللطف والترحاب الممزوجين بالرصانة. كلّ شيء في بيتها على أتمّ الترتيب، والجمال متناثر في أرجائه بأناقة مصاغة من أكثر العناصر بساطة. حتّى إنّك لتكاد تشعر وكأنّك في مختبر للعلوم أو مكتبةٍ راقية.
ما كان هذا كلّه مجرّدَ ذوق عندها، وإنّما انعكاس لما في داخلها من عشرة للكلمة الإنجيليّة الفاعلة فيها حتّى مفرق النفس والجسد. امرأة تجمع أولادها للصلاة مرّتين في اليوم وترتاد الكنيسة في كلّ المناسبات. وسويّاً مع زوجها المربّي الفاضل كانا قدوة في الخدمة الحكيمة لبيتهما ومجتمعهما.
في تراثنا الروحي، قديمه وقريبه، ثمّة عائلات مميّزة، عاشت التقوى برهافة رفيعة، وقدّمت للكنيسة عدداً من أولادها، الذين تكرّسوا لله فاستخدمهم، له المجد، ليلعبوا دوراً كبيراً في الأزمنة الصعبة. وكانوا بسبب من نشأتهم الجديّة روحيّاً على القدر المطلوب منهم.
أستذكر السيّدة روز في كلّ مرّة أقرأ في سيرة أحد القدّيسين الذين خرجوا من كنف عائلات كهذه. فليس بداعي الصدفة أن يتكرّس للربّ، رسميّا، ثلاثة من أولادها. فلو لم تُشبعهم من حبّ الله والكنيسة والوطن لما فضّلوا الخدمة الروحيّة العامّة على رغباتهم الطبيعيّة.
يقول سليمان الحكيم إنّ ثمن المرأة الفاضلة يفوق اللآلئ، لأنّها تعرف كيف تدبّر أمور بيتها، وتدفئ أولادها في أيّام البرد. أتقنت السيّدة روز تدبير أمور بيوت كثيرة إلى جانب بيتها. فورشة المرأة، التابعة للاتحاد النسائي، والتي كانت ترأسها، قدمّت لمجتمع هذه المدينة، الكثيرات ممّن ربتّهن لا ليتعلّمن مهنة فقط، وإنما ليكنّ ربّات بيوت ناجحات وصالحات. فكانت ترعاهن بالجديّة ذاتها، والدقّة ذاتها، التي ترعى فيهما أولادها. وبسبب تفانيها الأمومي هذا، في خدمتهن، بقيت في عملها سنوات عديدة بعد تجاوزها سنّ التقاعد.
عاشت سنواتها الثلاث الأخيرة في ألم أموميّ صامت وفظيع. امتزج فيه الخوف على مصير ابنها، بالرجاء بعودته سالماً. بكاؤها أمام أيقونة “الحنونة” في كنيسة السيدة، كان يهزّ أكثر القلوب قسوة، ومع ذلك لم تهِن، ولم تُظهر ضعفاً أمام المحبّين، وأمام أولادها الباقين بالأخص. لطالما احتفظت بمعاناتها في صدرها، ولم تُظهرها إلا لقلّة قريبة جدّاً. سمة الرزانة التي كانت فيها، تليق بسيّدة مؤمنة قديرة، تعرف واجباتها الاجتماعيّة بامتياز. لا شكّ في أنّ أوجاعها الداخليّة الأخيرة، إنّما نجمت عن هذا القهر الداخلي، الذي أذابها كالشمعة رويداً رويداً.
ولكثرة محبّتها للربّ، وثباتها فيه، بقيت واعية روحيّاً حتّى النفس الأخير. قالت لكاهن الرعيّة الذي زارها في المستشفى لو علمت أنّك ستزورني لطلبت منك القربان المقدّس لأتزوّد به، وهذا ما فعله الكاهن. حظيت بالمناولة المقدّسة ثلاث مرّات خلال رقادها القصير في المستشفى. تقبّلت الأخيرة من يد ابنها، غبطة البطريرك يوحنا، وكانت قد توقفت عن الطعام والشراب كليّاً، وبدت فاقدة للوعي، لكنْ، وكأنّها تسمع ما يُقال لها. صلّى لها وأخبرها بأنّه سيعطيها قربان من لم تقبل سيّداً لها سواه طوال حياتها. وعندما وضع القربان المقدّس على شفتيها الجامدتين، تحرّكتا ببطء لتلتقطاه وترشفاه. كما كانت، حتّى اللحظة الأخيرة، تحاول تحريك يمناها لترسم الصليب، عندما يصلّي أحد الكهنة لها.
علّمتنا “أم هاني”، بمثالها الحيّ، أنّ الله وهب المرأة قدرات هائلة، إنْ وظفتها ببركته، ووضعتها تحت رعايته، فإنّها قادرة على اجتراح المعجزات.
طيّب الله ثراك أيتها الأم الفاضلة. تتركيننا اليوم إلى ضياء من أحببت أكثر من الكلّ. ربّنا وحده يعرف المكافأة التي تستحقّينها. جاهدت الجهاد الحسن، أتممت شوط الإيمان، ضفرت إكليل البرّ، تنقيّت وتطهّرت بالشهادة الأرفع والأكثر إيلاماً. فاليوم تسمعين صوته العذب قائلاً لك: كنت أمينة على القليل. اليوم أقيمك على الكثير. فادخلي إلى فرح ربك.
غبطة أبينا البطريرك يوحنا. أشارككم وإخوتي الأساقفة والإكليريكيين ألمَ خسارة الأم، التي نقدِّرها ونجلّها، بمثابة أمّ لنا جميعاً، ونتقدّم إليكم بالتعزيّة المسيحيّة قائلين:
المسيح قام.