مريم المصرية – المطران جورج (خضر)
مريم المصرية وهي من القرن الرابع نقدمها نموذجا للتوبة. لست أعرف لماذا نماذج التوبة عندنا هي بالدرجة الأولى من النساء. هل هذا لأن الذين كتبوا في التوبة كانوا من الرجال وإحساسهم الأول ان التوبة هي التوبة عند النساء.
أليست مبالغة في أدب التقوى عندنا ان نتكلم بصورة أساسية على عودة النساء إلى الله مع ان شيئاً واحداً لا يدل ان قوة الخطيئة هي عندهن أولاً. لكن الرجال هم الذين كتبوا. ثم لماذا تبيان التوبة على انها عودة عن خطايا الجسد أولاً؟
مهما يكن من أمر في كنيستي تظهر هذه المرأة نموذجاً للعائد إلى ربه وليس فقط استعفافاً من الجسد والكبرياء أكثر فتكاً. لماذا أيقونة مريم المصرية لها مكانة خاصة في غرفة نومي؟
ما من شك عندي ان التوبة الكبرى أعجوبة. عندما تدرس أنت علم النفس درساً كبيراً يتضح لك ان التوبة لا ترد بسهولة في ميول النفس فالإنسان يحب رذائله ويريد ان يبقى عليها وما من شك عندي ان التائبين الحقيقيين قلة. لذلك لا يذهلني في سيرة القديسين ان يعتبر التائبون منهم قلة عزيزة. العودة عن لذات الجسد تعني عودة من تكوين نفساني كامل صار لك من اللذات وكأنك مخلوق جديد. أنت بالتوبة لا تبقى ذاتك، تصير إنساناً جديداً. التوبة بمعناها العميق الشامل لكياننا لا تفهم عقلياً. لذلك لا يذهلني ان تتعلق الكنيسة تعلقاً شديداً بالذين عادوا إلى ربهم لأنهم في التكوين البشري كانوا عنه بعيدين.
ما يلفتني إيمان الكنيسة في عرضها نماذج التوبة عند رجال ونساء تؤمن ان بين السامعين اليوم ناساً مثلهم أي انها ترجو عودتهم إلى الرب بالقوة التي عادت بها أمنا مريم المصرية. ما يدهشني أكثر ان المعلمين الروحيين الكبار يتكلمون عن التوبة وكأن الناس قادرون عليها. كيف يثقون هكذا بالناس الغارقين في أوحال الخطيئة؟
طبعاً التوبة أعجوبة. كيف تنسكب النعمة بهذا المقدار في النفس الغارقة في الأوحال وقد تربت عليها وآلفتها وانضمت إليها؟ كيف تنقل النفس القذارة الرهيبة إلى الضوء؟
الأعجوبة ليست ان تشفى من مرض. هذا ليس فيه تغيير في الكيان. الأعجوبة في التوبة. كيف الفاسق يسترد العفة في لحظة؟ هل من ناموس طبيعي معقول يجعله يتحول هذا التحول الكامل ويمكن ان يبقى طوال حياته الباقية لا يحن إلى الرذيلة؟ لست أرى أعجوبة أعظم من التوبة.
ثم لماذا يعجب المسيحيون بالقديسين الذين تابوا، ولا يعجبون بالذين عاشوا طيلة حياتهم تائبين؟ ربما لا يرون الأعجوبة في الذي كان طاهراً طيلة حياته. نحن الذين درسنا علم النفس درساً عظيماً نعرف تداخل الخطيئة في الكيان البشري وصعوبة استئصالها. كيف وصل الذين وصلوا؟ ليس عن هنا جواب على مستوى العقل. رؤيتك الروحية الفهيمة للذين تابوا، خبرتك إياهم تجعلك ترى ان في الأمر عجيبة.
مما يذهلني في المسيحية انها تتكلم عن أجمل ما عندها لأنه معطى أو كأنه معقول وهذا غير صحيح. المسيحية أعجوبة من البدء إلى الآخر. عليك ان ترى وان تفرح.
مريم المصرية ليست الوحيدة في التوبة. كل من عرف النفوس التائبة من عمق الخطيئة يفهم ان التوبة أعجوبة عند كل من ذاقها. ان تعود كلياً ونهائياً عن أعمال كان لك فيها لذات لأمر فوق المعقول. ولكن الله صانع العجائب في الكثيرين اليوم أيضاً.
كل خاطئ منا نموذجه مريم المصرية. يمكن ان يتوب ولكن هذا لا يحصل الا إذا تراءى له بنعمة من ربه ان عودته أطيب له من بقائه في الخطيئة.
جريدة النهار
16 نيسان 2016