كأنّ المسيح لم يأتِ ! – الأب جورج مسّوح

mjoa Wednesday April 20, 2016 186

كأنّ المسيح لم يأتِ ! – الأب جورج مسّوح

ظنّ تلاميذ يسوع الناصريّ أنّ معلّمهم هو المسيح المنتظَر، الآتي إلى العالم كي يقيم مملكة أرضيّة كباقي ممالك هذه الدنيا. وكانوا يأملون بأن يتبوّؤوا مناصب القيادة في هذه المملكة المزمع إنشاؤها على يد سيّدهم. من هنا يأتي طلب تلميذيه يعقوب ويوحنّا، وهو على أبواب أورشليم، أن يجلس أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره في مجده الملكيّ.
التلاميذ كانوا لا يختلفون عن أب

dinnerناء ملّتهم من اليهود في اعتقادهم أنّ مُلك المسيح ليس سوى مُلك أرضيّ. لذلك، لم يكن مستغربًا لدى التلاميذ العشرة الباقين طلب يعقوب ويوحنّا احتلال الموقعين الأوّلين، بل قد أثار هذا الطلب حسدهم وغضبهم ضدّهما، لأنّهم كانوا يطمعون هم أيضًا بالموقع الأوّل في هذا المجد الأرضيّ.
يُجمع التراث الكنسيّ على القول بأنّ دخول الملكوت له باب واحد، هو الصليب لا سواه. وهذا ما لم يدركه التلاميذ إلاّ بعد أن شاهدوا المسيح مصلوبًا ثمّ عاينوه قائمًا من بين الأموات. وفي ذلك يقول القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم بطريرك القسطنطينيّة (+407): “كان يعقوب ويوحنّا ينتظران أن يدخلا إلى ملكوت المسيح، لكنّهما لم ينتظرا الذهاب إلى الصليب والموت. ومع أنّهما سمعا بذلك آلاف المرّات، فإنّهما لم يقدرا على أن يفهماه بوضوح. لذلك ظنّا أنّه كان ذاهبًا إلى هذه المملكة الحسّيّة ليحكم في أورشليم”.
يلاحظ المغبوط أوغسطينوس أسقف عنّابة (+430) أنّ التلميذين “كانا يتباحثان مع السيّد حول المجد، فأظهر لهما أنّ الارتفاع يسبقه التواضع، وبالتواضع فقط يصبح طريق الارتفاع مُعَدًّا. أمّا الطريق إليه فهو الموت مع المسيح. الطريق هو التألّم مع المسيح. والهدف هو البقاء معه إلى الأبد”. لذلك يقول لهما يسوع: “الكأس التي أشربها تشربانها، والمعموديّة التي أعتمد بها تعتمدان بها. أمّا الجلوس عن يميني أو عن يساري فليس لي أن أعطيه، إنّما هو للذين أُعدّ لهم” (مرقس 10، 32-45).
يؤكّد يوحنّا الذهبيّ الفم أنّ “المسيح سمّى صلبه كأسًا، وموته معموديّةً. سمّى صليبه كأسًا لأنّه كان يُقبل عليه فرحًا، وسمّى موته معموديّة لأنّه بها طهّر العالم”. ويسعنا القول بأنّ التراث الكنسيّ يؤكّد على التماهي التامّ ما بين الكأس والاستشهاد في سبيل الإيمان والكنيسة. فالقدّيس بوليكاربوس أسقف إزمير (+156) يبتهل ساعة استشهاده قائلاً: “أباركك، يا ربّ، لأنّك أهّلتني في هذا اليوم وفي هذه الساعة أن تجعلني مع الشهداء شريكًا في كأس مسيحك”.
بيد أنّ التلاميذ لم يدركوا مقاصد يسوع من تعليمه، “وسمع العشرة هذا الكلام، فغضبوا على يعقوب ويوحنّا”. التنافس على السلطة جعلت التلاميذ يغضبون بعضهم على بعض، وجعلتهم ينكرون المسيح ليلة القبض عليه، وجعلت أحدهم يقبض ثمن خيانته… السلطة فرّقتهم، أمّا كلمة الله فجمعتهم، كما جعلهم العيش بمقتضى هذه الكلمة قلبًا واحدًا.
المسيح لم يأتِ كي يردّ الـمُلك لإسرائيل ولا لسواها من ممالك هذا العالم. المسيح لم يأت من أجل أورشليم الأرضيّة، ولا من أجل روما أو القسطنطينيّة، ولا من أجل نيويورك أو موسكو أو باريس… لقد أتى من أجل أن يجعل العالم كلّه صورة عن الملكوت الآتي، عالـمًا يسوده السلام والمحبّة والرحمة والبرّ…
أمّا مَن يعتقد بأنّ المسيح يشنّ الحروب ويقود العسكر من أجل استعادة مُلك أرضيّ اندثر، فهو ما زال، كاليهود، ينتظر مسيحًا آخر لا يمتّ بصلة إلى المسيح بن مريم، الكلمة الذي صار جسدًا، ومات على الصليب، وقام في اليوم الثالث من بين الأموات.
ليبانون فايلز
20 نيسان 2016

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share