صليب المحبّة وقيامتها – المطران سابا (اسبر)
المحبوبيّة مشكلة البشر. كلٌّ يريد أن يكون محبوباً. ما من أحد لا يشتهي أن يُحَبَّ، وأن يكون موضع محبّة الآخرين؛ بعضهم، على الأخصّ.
تُشعِر المحبوبيّة المحبوبَ بوجوده وتحميه، كما تمنحه قدرة روحيّة، أو معنويّة، إن أردتَ، تفجّر طاقاته، وتحرّك الكامن منها. خُلقَ الإنسان ليكون محِبّاً ومحبوباً. الله المحبّة خلق محبوباً وسمّاه الإنسان.
أمّا المشكلة الأكثر صعوبة فتكمن في أنّ قلّة، فقط، تعي أنّ من لا يُحِبّ، يبقى عاجزاً عن الاقتناع بأنّ ثمّة من يحبّه. لكي تكون محبوباً، يلزمك أن تبادر إلى محبّة غيرك. إن لم تحبّ تصِر محبوبيّتك دَلَعاً وإفساداً لك. إذ ذاك تصير استغلالاً منك لمن يحبّكَ. تتعلّق به أو تستخدمه، لافرق، لأنّه يحقّق متطلّباتك، ويتمّم شهواتك، ويضخّم أناك. تصير بلا حسّ بالآخر، يتركّز حسّك كلّه على ذاتك، ولا تعود ترى سواها.
في حالة كهذه أنت تقتل ذاتك. لأنّك تقيمها في فرديّة مميتة. ذاتك لا تحيا إلا بالمشاركة، بالتعاطي مع الآخر، بالعطاء، بالبذل، بالمبادلة، بالتكامل، بالتفاعل؛ وهذا كلّه يحتاج إلى الآخر. الفرديّة القاتلة في الغرب الصناعي أودت بالكثيرين إلى استبدال الإنسان بالكلاب. فعندما لا تجد من يحبّك تطلبه في أيّ بديل كان، لكن هذا البديل يظلّ عاجزاً عن تحقيق حاجتك الأصيلة؛ قد يملأ فراغاً ما في داخلك، أو يعوّضك بالقليل جداً، مؤقتاً، فتضطر، بعد فترة قصيرة، إلى البحث عن بديل جديد.
عيش المحبة يخيف الكثيرين، في هذه الأيّام. يريد الإنسان المعاصِر التمتّع بالمحبوبيّة، يشتهيها لنفسه، ويحجبها عن غيره. يختبر صعوبة هائلة في أن يكون محِبّاً، فيخاف الأمر ويهرب منه. للمحبّة ثمن. أن تحبّ، يعني أنّك مستعد أن تبقى على الصليب. المحبّة موجعة لأنّ ثمنها تدفعه أنت، ولا تستلمه من المحبوب، في كلّ حين. إلى ذلك، تواجهك محبّة الآخر بالعيوب والنقائص والرذائل المستحكمة فيك. وهذا قد يقتل مواهبك، ويبعد الفرح عنك، ويجمّد طاقاتك، أو على العكس تماماً، يحييك ويفرحك ويُطلق كل طاقاتك الإيجابيّة.
إنْ عشت في فرديّتك، وعزلت ذاتك عن الآخرين، طالباً ما تظنّه سلامك في بُعدك عنهم، ومتجنّباً ما يزعجك فيهم، فلن تحتكّ بأحد، على الصعيد الداخلي، وستبقى على ما أنت فيه، ممّا نسميّه، في المسيحيّة، خطايا، ويسمّيه علم النفس أمراضاً نفسيّة أو عقداً. تبقى، على سبيل المثال، على ما فيك من غيرة وحَسَد وتشاؤم وخوف واكتئاب وتوق إلى ما لا تعرف له سبيلاً. لا بل قد يزيد فيك. تبقى كالحجرة المرميّة عند منبع النهر. حجرة ذات حواف مدبّبة وحادّة، قابعة في ذاتها. تبقى على خشونتها قروناً، ما لم تدفعها المياه الغزيرة إلى الاصطدام بغيرها.
تكتشف، بمن تحبّهم، عيوبك وأمراضك ورذائلك، وبالأخصّ، تلك المختبئة منها في عمق أعماقك، تحت ألف اسم ومبرّر. عيشك منعزلاً يقيمك في وهمِ سلام، لأنّ الأهواء الأمهات تبقى في حالة كمون في داخلك، فيما أنت تظن أنّك متحرّر منها. أمّا احتكاكك بمن تحبّ فيُخرجها منك، لتواجهها وتهزمها، وتسير على درب الحريّة الحقّة . يجعلك الاحتكاك بغيرك، إن كنت تحبّهم حقّاً، كما تجعل مياه النهر الحجرة المدبّبة، صقيلة، إذا ما تجاوبت معها ولاعبت الحجارة الأخرى. كلّ صدمة لها مع حجرة أخرى، ستكسر قليلا من حدّتها. وهكذا، مع الوقت، وشيئاً فشيئاً، سترى نفسها، في نهاية المطاف، وعند مصب النهر، حصاة ملساء ناعمة وجميلة، تُرسَم عليها أجمل الرموز، وتوضع في أفضل الأماكن لتزيّنها. تصير محطّ إعجابٍ ومحبوبيّة.
هكذا المحبّ، إنسان يكسر، بمحبّة الآخرين، قسوته؛ وبها يشفي أمراضه، ويتحرّر من أنانيّته وما تولّده من خطايا. هذا هو ثمن المحبّة، وهذا هو طريقها. كلّما تحرّرت أكثر، ازدادت محبّتك وفرحت بمحبّيك. وهؤلاء لن تجدهم إلا إنْ أحببتهم أوّلاً.
قال الفيلسوف الوجودي الملحد “سارتر”، في القرن الماضي، إنّ الآخرين هم الجحيم، فردّ عليه الفيلسوف الوجودي المسيحي” غابرييل مارسيل” بمقولة: “الآخرون هم الجنّة”. والتقليد المسيحي الآبائي يستخدم صورة المقيَّدين ظهراً إلى ظهر، فتستحيل عليهم رؤية بعضهم بعضاً، لكي يعبّر عن ماهية الجحيم: إنّه عدم النظر إلى الوجه، وتالياً فقدان القدرة على تبادل الحبّ.
أفرغ من ذاتك حيّات العزلة، وعقارب حبّ الذات، والخوف من ملاقاة الآخر كما هو. حرّر قبضتك ممّا تتكمّش به، وابذل وأعطِ. اختبر كم أنّ العطاء أفضل من الأخذ. تذوّق فرح عيشك للمحبّة، فتنسَ كلفتها، لا بل تستعذبها، لأنّها تمنحك قداسة ونقاوة تفجرّان فيك فرحاً لا ينضب، فرحاً ما كنتَ تتخيّل أنّك قادر على عيشه أبداً. وحدها المحبّة تمنحك نضجاً واتزاناً لن تجدهما خارجها.
تلقى إخوةً لك في هذا الدرب، تتقوّى وإيّاهم، فتكمِل مسيرك، لا بل صليبك، ومنه تصل إلى القيامة. أليس هذا ما فعله إلهك، الذي أحبّك إلى المنتهى؟ الإله الحقيقي، الذي انحدر برضاه إلى قعر الجحيم حبّاً بك، وتوقاً منه إلى تخليصك منها. ذاك الإله، الذي ما عرفناه في الإنجيل إلا متنازلاً نحونا. وما ارتفع إلا مرّة واحدة، على صليب جلجلته. لكنّه إذ ذاك رفع العالم كلّه معه، وأضاءه بقيامته.
02 أيار 2016