من الصّعود إلى الصّليب إلى الصّعود إلى السّماء! – الأرشمندريت توما (بيطار)

mjoa Monday June 13, 2016 177

من الصّعود إلى الصّليب إلى الصّعود إلى السّماء! – الأرشمندريت توما (بيطار)

   لمّا علّق الرّبّ يسوع على الصّليب، تمّ كلّ تدبير الخلاص. لهذا، قال، قبل أن يسلم الرّوح: “قد تمّ”. هذا لا يعني، فقط، أنّ ما ورد في الشّريعة والأنبياء والمزامير قد تم؛ بل يعني، أيضًا، أنّ تدبير الخلاص قد تمّ. ما شهدناه، بعد الصّليب، هو سلسلة من التّعابير عن تمام الخلاص: قيامة الرّبّ يسوع وصعوده، إلى السّماء، وأخيرًا نزول الرّوح القدس في العنصرة المجيدة.

  ascension11 عيد الصّعود، اليوم، ما أهمّيته؟. أما كان يكفينا أن يقوم الرّبّ يسوع من بين الأموات؟. فلماذا الصّعود؟. الرّبّ يسوع، قبل أن يتجسّد، كان في السّماء، جالسًا عن يمين الله الآب. وهو بقي جالسًا عن يمين الله الآب، لأنّه ابن الله. إذًا، مَن الّذي صعد إلى السّماء، وجلس عن يمين الآب؟. الّذي صعد هو الّذي نزل، والّذي نزل هو ابن الله، نزل وتجسّد من مريم البتول. نزل إلهًا، وصعد إلهًا متجسّدًا. هذا هو الجديد: أنّ الرّبّ يسوع، الّذي اتّخذ جسدنا، وصار إنسانًا مثلنا، وهو باقٍ ابنًا لله، اتّخذ بشرتنا، وصعد بها في ذاته. الرّبّ يسوع لم يأخذ بشرتنا ليُصعدها إلى فوق وكأنّها غريبة عنه، بل اتّحد ببشرتنا، بإنسانيّتنا. صار إنسانًا، بكلّ معنى الكلمة. لهذا، صعدت بشرتنا، إنسانيّتنا، فيه هو الّذي جعل نفسه يتّحد بنا. إذًا، بشرتنا صعدت فيه إلى السّماء، وجلست فيه عن يمين الله الآب. هذا هو الجديد: أنّ الإنسان، في شخص الرّبّ يسوع المسيح، اتّخذ المكانة الأولى عند الله. هذا هو معنى أنّ الرّبّ يسوع جلس عن يمين الله الآب. كلّ هذا إنّما يشير إلينا نحن، الّذين أُعطينا، بالطّبيعة البشريّة، هذا الامتياز الهائل.

   الإنسان، إذًا، بجلوسه في شخص الرّبّ يسوع، في السّماء، يصير، بكلّ بساطة، إلهًا. يسوع هو ابن الله، الّذي اتّحد ببشرتنا، وأعطانا أن نتّحد بألوهته. الحياة الّتي فيه، الّتي في ابن الله، أعطانا الرّبّ الإله أن تكون هي نفسها حياتنا نحن. نحن، في البدء، خُلقنا. ولكن، في يسوع المسيح، تألّهنا، أي أُعطينا أن تقيم فينا حياة الله. هذا معناه أن نصير آلهة، لأنّ حياة الله ليست مخلوقة. هذا الجسد مخلوق. الإنسان، كما برأه الرّبّ الإله، في البدء، كان مخلوقًا. ولكن، بعدما اتّخذ ابن الله إنسانيّتنا، طبيعتنا البشريّة، بعدما اتّحد بنا في الطّبيعة؛ صرنا، نحن المخلوقين، نحمل، في ذواتنا، حياة الله غير المخلوقة. لهذا، أعطانا الرّبّ الإله أن نصير آلهة بالنّعمة، بالبركة. هذه هي النّعمة الّتي أسبغها الرّبّ الإله علينا. في وقت من الأوقات، لم تكن لنا هذه النّعمة. ثمّ، في وقت آخر، بعدما تجسّد ابن الله، أعطينا أن نصير كذلك، أن نقتني حياة الله، نعمة الله، روح الله. لهذا السّبب، بالصّعود، في الحقيقة، تمّ فعل التّدبير الخلاصيّ، للإنسان، بالرّبّ يسوع المسيح. وبعد ذلك، أُرسل الرّوح القدس؛ ليستقرّ على البشريّة؛ ويحقّق في البشريّة، في كلّ الّذين آمنوا ويؤمنون بالرّبّ يسوع المسيح، ما حقّقه الرّبّ يسوع المسيح في شخصه. الرّوح القدس أُرسل إلينا من فوق، لكي يتحقّق فينا هذا الّذي حقّقه الرّبّ يسوع المسيح للإنسان، في ذاته. لذلك، الإيمان بالرّبّ يسوع المسيح، والسّلوك في وصيّته، والاقتداء به، والسّير وراءه، وحمل الصّليب الّذي هو عُلّق عليه، أعني صليب المحبّة الكاملة لله والإنسان والخليقة… كلّ هذا، في الرّوح القدس، يجعل كلّ واحد منّا يقتني، شخصيًّا، وفعليًّا، هذا الّذي حقّقه الرّبّ يسوع المسيح في جسده.

   ما كان الرّبّ يسوع قد صعد على الصّليب، إلاّ لأنّه شاء أن يُصعدنا إلى السّماء. وما كان الرّبّ يسوع ليجلس على عرش مجد الصّليب، إلاّ لأنّه شاء أن يُجلسنا على عرش مجد الله الآب، عن يمينه. مجد الرّبّ يسوع تحقّق، على الأرض، بالصّليب. لذلك، الصّليب هو علامة المجد. قبل يسوع، كان الصّليب علامة اللّعنة. مع يسوع، صار الصّليب علامة المجد. قبل أن يُسلَم الرّبّ يسوع إلى اليهود، ومن ثمّ إلى الرّومان ليُصلَب، تحدّث عن كون السّاعة قد أتت ليُمجَّد ابن الله. هذا معناه ليُصلَب، لأنّ الصّليب هو الّذي أظهر المجد الكامل للرّبّ يسوع المسيح. ومجده حبُّه للبشريّة. هذا هو مجده. وهو ذهب، في حبّه للبشريّة، أي في إعلان مجده، إلى المنتهى؛ إذ ارتضى أن يتّخذ موت الإنسان، ارتضى أن يموت؛ ليتّحد، بالكامل، بالإنسان. ما كان يمكن لهذا الاتّحاد أن يحدث، لو لم يعلَّق الرّبّ يسوع على الصّليب. على الصّليب تجلّى ما تحدّث عنه الرّسول بولس، في رسالته إلى أهل فيليبي، عن الرّبّ يسوع، أنّه “أفرغ نفسه، وأخذ صورة عبد، وصار في شبه النّاس”، أي صار إنسانًا بالكامل، صار عبدًا للإنسان. هو لم يصر، فقط، إنسانًا؛ بل صار عبدًا للإنسان؛ لأنّه جاء “ليَخدم لا ليُخدم”. هو استعبد نفسه، بالكامل، للإنسان؛ ليخلّصه، لينجّيه من الخطيئة، من الألم، من المعاناة، من الموت. لذلك، التحم به، بصورة كاملة، بالموت. لو لم يكن الالتحام، بالموت، قد حدث؛ لما كان هناك اتّحاد حقّانيّ قد حصل بين الله والإنسان. كان لا بدّ للرّبّ يسوع من أن يموت. البشر لا يتّحدون، في الحقيقة، إلاّ بالموت. يتّحدون، أوّلاً، بالله، بالموت؛ ويتّحدون أحدهم بالآخر بالموت. وهذا معناه أنّ محبّتهم الواحد للآخر لا تكون محبّة كاملة، تنضح بمجد الله، إلاّ إذا كان الإنسان مستعدًّا لأن يموت من أجل الله، ومن ثمّ من أجل الإخوة. لهذا، قال الرّبّ يسوع: “ليس حبّ أعظم من أن يبذل الإنسان نفسه عن أحبّته”.

   لذلك، العيد، اليوم، هو كشف للفرح الحقّ، الّذي أتى بالصّليب. عندما قيل “بالصّليب أتى الفرح إلى كلّ العالم”، فهذا الفرح قد تمّ، الآن، بالصّعود، والجلوس عن يمين الله الآب. لهذا، عيد الصّعود عيد أساسيّ، في كنيسة المسيح. ما كانت لتكون للقيامة قيمة، لو لم يكن هناك صعود. حتّى العنصرة إنّما أُعطيت لنا، لكي يكون لنا أن نشترك، فعليًّا وشخصيًّا، في فعل الصّعود، الّذي أتمّه الرّبّ يسوع بجسده. على هذا، نلقانا، اليوم، في غمرة الفرح السّماويّ. الإنسان يُجلَس، في شخص الرّبّ يسوع، في السّماء، عن يمن الله الآب. هذا هو الفرح الحقّ، وليس فرح أعظم من هذا الفرح. فإذا ما جعلنا نصب أعيننا هذا الّذي حقّقه الرّبّ يسوع، اليوم، في الصّعود؛ فإنّنا، إذ ذاك، ندرك، بالرّوح لا بالعقل، الفرحَ الأعظم، الّذي أُسبغ ويُسبَغ على البشريّة جمعاء. آمين.

الأرشمندريت توما (بيطار)
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي
دوما – لبنان
12 حزيران 2016

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share