منقول عن نشرة رعيّتي، العدد 35، عام 2015
راغدة حدّاد:
.
عام ١٩٨٩، أصدر البطريرك المسكوني آنذاك ديمتريوس الأول رقيمًا بطريركيًا دعا فيه المؤمنين إلى رفع صلاة الشكر والابتهال لخلاص الخليقة وحماية البيئة في اليوم الأول من أيلول كل عام، أي في رأس السنة الكنسية. وخلفه عام ١٩٩١ البطريرك المسكوني بارثلماوس الأول، الذي رفع لواء حماية البيئة على نطاق عالمي، حتى لقّب “البطريرك الأخضر”. وهذه السنة، في آب ٢٠١٥، اقتدى البابا فرنسيس بالمبادرة الأرثوذكسية، معلنًا الأول من أيلول يومًا للصلاة من أجل البيئة في الكنائس الكاثوليكية.
.
في التعليم المسيحي، يمكن تلخيص العلاقة بين البشر والطبيعة بالكلمات الآتية: “أثمروا واكثُروا واملأوا الأرض وأخضعوها وتسلّطوا على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى كل حيوان يدبّ على الأرض… إني قد أعطيتكم كلّ بقل يُبزر بزرًا على وجه كل الأرض وكلّ شجر فيه ثمر شجر يبزر بزرًا. لكم يكون طعامًا…” (تكوين ١: ٢٨-٢٩).
.
بهذه الكلمات أعطي البشر سلطانًا على الأرض. الله أهدى إلينا العالم، ونحن بدورنا نقدم هذا العالم إلى الله بشكر إذ نقول: “التي لك مما لك نقدمها لك على كل شيء ومن جهة كل شيء”. فمن خلالنا، نحن البشر الأحرار، تقدََّم الخليقة إلى الخالق.
لكننا إذ ننظر إلى العالم اليوم، نرى صورة مختلفة جدًا عن الخليقة الأصلية. فجحود الإنسان وغروره وجشعه حطمت علاقته الاصلية هذه، اذ تخلى عن مفهوم الكنيسة لدوره راعيًا للخليقة: “وأنتم يا غنمي… أهو صغير عندكم أن ترعوا المرعى الجيد وبقية مراعيكم تدوسونها بأرجلكم وأن تشربوا من المياه العميقة والبقية تكدّرونها بأقدامكم؟” (حزقيال ٣٤: ١٧-١٨).
..
نتيجة هذا الإخلال بالعهد الأول، يواجه عالمنا اليوم أزمة موت وفساد لم يعرفها من قبل. فالاحتباس الحراري، الناجم عن انبعاثات المصانع ومحطات الطاقة والسيارات، يغير المناخ ويذيب الجليد القطبي مهددًا بارتفاع مستوى البحار وغرق الجزر والمناطق الساحلية. ملايين الأنواع النباتية والحيوانية مهددة بالانقراض. مساحات شاسعة من الغابات تختفي كل يوم. الأنهار لم تعد تصبّ في البحر إلا حثالة. هواؤنا مسموم، وماؤنا مسموم، وطعامنا مسموم، ونفاياتنا تتكدس جبالاً.
.
عام ١٩٩١ عقد مؤتمر بيئي في الأكاديمية الأرثوذكسية في جزيرة كريت اليونانية، شارك فيه ممثلو الكنائس الأرثوذكسية، وممثلو كنائس أخرى ومنظمات دولية، واختصاصيون في مجالات مختلفة من اللاهوت وعلوم الطبيعة. وأعلن في ختام المؤتمر أن الكنيسة الأرثوذكسية تشارك أولئك القلقين من العبء المتزايد على البيئة الطبيعية نتيجة إساءات البشر. كما تم التذكير بأن الكنيسة الأرثوذكسية تشكل حضورًا وشاهدًا على نمط متجدد للوجود، وفق منظورها اللاهوتي لعلاقة البشر بالله، وبعضهم ببعض، وبالطبيعة.
ومن أبرز توصيات ذلك المؤتمر الأرثوذكسي الجامع:
.
* أن تكرس كل كنيسة أول أيلول (سبتمبر) يوم صلاة لكل الخليقة، مع التعليم والعظات في القداديس بحاجتنا إلى العناية بخلق الله والبيئة الطبيعية.
.
* أن تباشر كل كنيسة برامج للتثقيف البيئي المسيحي والنشاطات والمشاريع البيئية الرعوية والمدرسية، مع تحضير المواد واللوازم الضرورية لذلك. وحيث للكنيسة مؤسسات تعليمية عالية، يمكنها أن تدعم وتشجع الأبحاث في مجالات بيئية، مثل الطاقة الشمسية ومعالجة مياه الصرف لاعادة استخدامها.
.
* أن تنخرط كل كنيسة في مشاريع ومبادرات بيئية على المستوى المحلي والأبرشي. يمكن مثلاً، على المستوى المحلي، تنظيم برامج لإعادة تدوير الورق والزجاج والمعادن، وتشجيع الاقتصاد بالمياه والكهرباء والتقليل من استعمال السيارة. أما على صعيد الأبرشية، فيمكن استخدام أنظمة الطاقة المتجددة (كالطاقة الشمسية) في المؤسسات التابعة للأبرشية، كما يمكن إنشاء محمية طبيعية في أملاك الوقف.
.
* ان تحرص كل كنيسة على استخدام الأراضي والمباني والاستثمارات التي تخصها بطريقة لا تسبب ضررًا بيئيًا، وانما تحسن البيئة.
.
* ان تعقد اجتماعات للرعية تتنوع مواضيعها من اللاهوت إلى العلوم البيئية، من أجل زيادة الانخراط العملي في القضايا البيئية والبيوأخلاقية.
.
* ان تشجع الكنيسة الشبيبة وتدعمهم ليباشروا مشاريع وبرامج ذات أهداف بيئية، مثل مخيمات العمل والبرامج التعليمية والتوعوية.
.
* أن تتعاون الكنائس في منطقة ما حيال قضايا بيئية محددة تتجاوز حدود كل كنيسة على حدة.
.
البيئة الأفضل تبدأ بكل واحد منا: في البيت، والمكتب، والمصنع، والمدرسة، والسيارة، وعلى الطريق… وفي الكنيسة أيضًـا. إن في وسع الكنيسة أن تفعل الكثير لحماية البيئة ومساعدة المجتمع ليصبح مكانًا أنظف وأوفر صحة.
الإنسان هو، بالمفهوم الكنسي، “راع للخليقة”. وهذه الرعاية تشمل بيئة الأرض ومواردها الطبيعية. ولئن تم تكريس الأول من أيلول “يوم البيئة في الكنيسة الأرثوذكسية”، فإن رعاية البيئة واجب على المؤمن في كل يوم.