الأب إيليّا متري: ألبير لحّام
مجلّة النّور، العدد السابع، ٢٠١٣. وأيضًا جُمع مع غيره من المقالات والكلمات للكاتب وأسعد الياس قطّان في كتاب أصدرته تعاونيّة النّور العام 2015 بعنوان “وجوه من الأرض الجديدة”
“أنميت حماسي ليسوع من خلال الذين أحبّوه قبلي”
(ستان روجيه)
قليلاً ما التقيت به وجهًا بوجه. هذا له علاقة مباشرة بأنّني لم أعرفه سوى أنّه يقضي معظم أوقاته في الخارج. أو، بكلام واحد، له علاقة بأنّني لم أقدر، لظروف تتعلّق بعملي، على أن ألتحق بكلّ اللقاءات التي كان الإخوة يرتّبونها له، مع هذه الفرقة الحركيّة أو تلك، في غير زيارة كان يقوم بها إلى لبنان.
هذه المقدّمة لا أذكرها، فقط، أسفًا على بعض لقاءات غبت عنها، بل أودّ فيها، أيضًا، أن أغبّط ما يعرفه القاصي والداني، أي أنّ ألبير لحّام كان متّأكه الأغلى أن يلتقي، في عوداته، بالإخوة النهضويّين.
هذا المتّكأ الأخويّ هو مداي في هذه السطور.
إن ذكرت أنّ أخانا ألبير كان واحدًا من الستّة عشر فتيًّا الذين دفعهم روح الله، في السادس عشر من شهر آذار العام الـ1942، إلى أن يؤسّسوا حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة، لَما قلت أمرًا جديدًا. لكنّ براعة الجدّة فيه أنّه كان يعرف أنّ فعل التأسيس ليس ذكرى تُحصر في سجلّ أو يُحتفل بها في كلّ سنة، بل هو حدث دائم، أي تحرّك موصول يأبى، في طبيعته، أن يتحوّل فينا إلى تاريخ يُحكى أو يدوَّن فقط (أو إلى رواية تُروى، كما لو أن يقول قائل: كنتُ، في الحركة، في العام…)، بل يلزمنا، واعين، أن يبقى حدثًا نتقبّله في كلّ يوم، في كلّ ساعة، كلّ لحظة. هذا التأسيس تمّ في مكانٍ، في مدينة بيروت، في يومٍ ذكرتُهُ. لكنّ سرّ ألبير لحّام وصحبِهِ في الحقّ أنّه أُنعم عليهم بأن يكونوا، مؤسّسين، هم “المكان” الذي لا يُحصر في زمان أو مكان! لقد كتبت، مرّةً، على صفحات “مجلّة النور”، قصّة ذاك “الفتى المؤسِّس” (أنظر: 3، 2013). هذا لم أخترعه من نفسي. هذا، أي ذاك الفتى عينه، علّمني، بكلمات قليلة كتبها، أشياء أنقذتني من أمور كنت أقاربها تمتمة، وردّني إلى واقع كنت أدانيه في أحلامي أو في أمنياتي! أفهمني أنّنا، بالتزامنا “النهضة”، لا نرتبط بحركة التأسيس الأولى فقط، بل تمتدّ فينا أيضًا، أي يجعلنا التزامنا إيّاها مؤسّسين أيضًا!
من طبيعة اقتبال هذا التأسيس أن تُخلص لِمَا سمح لك الله بأن يحدث من طريقك. هذا يمكن اشتمامه في ما ذكرته أعلاه. ولكنّني، هنا، أودّ أن أوضح شيئًا تضمّنته سطوري، وإن لم يظهر حرفيًّا فيها. أودّ أن أوضح أنّ ألبير لحّام وبعضًا من صحبه (أعني، هنا، الذين جمعتهم سماء الله)، ختموا، فعلاً، أنّ التزامهم لم يكن ارتجالاً أو طارئًا. لا أعرف. لكنّني قادر على أن أتكهّن أنّهم، كلّهم بلا استثناء، حاصرتهم، من غير جهة، خطايا مُرّة، خطايا أرادتهم أن يروا إلى التزامهم خدعة! ولكنّهم تفلّتوا من هذه التجربة. “فالله يؤتي مع التجربة وسيلة الخروج منها”. وكان مخرجهم رؤيتهم عينها، التزامهم عينه. هذا يريدني أن أقول إنّ كلّ الذين أتوا من التأسيس وأسهموا فيه لا يكون التزامهم شيئًا إن لم يختاروه، مثل ألبير وصحبه، على كلّ شيء، أبديًّا. قَبْلَ القبر، يمكنك أن تنتظر أيّ شيء. لا تستطيع قَبْلَهُ أن تقول ما يُقال على بابه! هل آتي من واقعنا؟ على أنّني أعتقد أنّ الأزمنة تتعاور الخطايا (وأنّ الكتابة عن الماضي بعض حبرها من الحاضر أيضًا)، أقول، جوابًا عن سؤالي، إنّني، بصدق، لا آتي من واقعنا. لكنّني ما دمت ذكرت الواقع، يعنيني أن أقول، من دون أن أقصد قطع الرجاء أو جرح أيّ أخ ورع، إنّنا إن لم نتعلّم من المؤسّسين الأوائل، والذين حاكوهم في نهجهم، أن نبقى، على كلّ مرارة حاضرة، نرى إلى الرؤية علاقةَ جِدّةٍ وتجديد، لا أعلم إن كان من الممكن أن يبقى واعٍ في موقعه! هذه الخطايا المقزّزة، التي ما زالت “تحوط بنا بسهولة”، لا أكون موضوعيًّا إن لم أقل إنّها هي، عينًا، نوعٌ من طرد! كيف تتجاوز الطرد؟! ما الذي يبقيك في موقعك؟ يبقيك إيمانك بأنّ الله هنا، كلّيًّا هنا. أو، من إيمانك عينه، يبقيك أولئك الإخوة الكبار المدهشون الذين تعرف أنّك لا تصلح لأن “تفكّ رباط حذائهم”. يبقيك إخلاصهم للرؤية حتّى النهاية، حبّهم للإخوة حتّى النهاية. ما من شيء شهيّ في معظم البشر. وعلى ذلك ترى بعضًا محوا أنفسهم حبًّا، بعضًا يصرّون على أن يبقوا إخوة، بعضًا لا همّ لهم سوى أن يزرعوا الأرض وعيًا وإخلاصًا. وترى نفسك على الطريق باقيًا تتبع الخطى، بثقة!
هذا، استطرادًا، يبيّن لي أنّ البير لحّام وعى، وعيًا لم يتراجع عنه على مدًى يقارب القرن، أنّ الله يُعرف في الناس الذين تعايشهم. يُعرف، ويُرى! هل كان، في عوداته إلى الإخوة، يحجّ إلى انطلاقة باقية؟ هل كان يلتمس دوام الرؤية؟! الناس، الكبار بيننا، لا يفانون الأيّام لاهين. لا يلتزمون أمورهم عرضًا (من غير قصد). أناس يصرفون نحو قرن في قربى أتراب لهم تجمعهم بهم رؤية مشتركة، لا يعني سوى أنّهم يطلبون أن يروا الله! لا أدين إن قلت إنّ شعوري بأنّ الكثيرين منّا لمّا يتعلّموا أنّ المسيحيّة مثالها واحد، مثالها مسيح رأى أنّ الجماعة الكنسيّة لا تصطلح إن لم تُصالح أبدًا. أجل، رأى أنّ المحبّة هي التي تصنع “أرضًا جديدةً وسماءً جديدة”. ألا يثيرك رجال كبار في غير أمر، أجل في غير أمر، يقعدون إلى بضعة شباب صغار لبعضهم بلوغهم في أمور الحقّ ولآخرين تمتماتهم؟! هذا سرّ يفترض أن يُستقصى، ويُناجى به! هذا ليس افتخارًا بلحم ودم، بل برؤية عجيبة، رؤية العهد الجديد إلى الكنيسة، “أهل بيت الله”، “عمود الحقّ وركنه”.
أمّا الرؤية الحركيّة، فتفاصيلها. أناسها. فكرها. لقاءاتها. أنشطتها. إنتاجها. الرؤية الحركيّة واحدة، طبعًا. ولكنّ كلّ ما فيها يعبّر عنها. وتعبّر عنها الأحلام الجديدة التي تلازم اليقظين! هذه كلّها كانت هواجس ألبير لحّام. ألم يستدعك مرّةً، ليناقشك في أمور تتعلّق بمجلّة النور، في أبوابها ومقالاتها؟ ألم يكلّمك على إيثاره المقالة القصيرة التي تبيّن أنّ واضعها يذكر أنّ غيره موجود؟ ألم يطلب منك أن تُشجّع هذا أو ذاك على دوام الكتابة؟ ألم يستمع إليك طويلاً بعد أن كلّمك طويلاً؟ ألم يشعرك بأنّك وإيّاه واحد؟!
ما هذا السرّ، سرّ الإخوة الكبار؟ لِمَ ترانا نتلهّى دائمًا بالذين يتغيّرون؟ بالذين كانوا أمسِ إخوةً وباتوا اليوم شيئًا آخر، شيئًا كان مخفيًّا فيهم عنّا؟ شيئًا وأشياء؟! بالذين لم يُعلم عنهم أنّ أخوّتهم تذكرة وصول؟ بالذين دخلهم في وصولهم أنّهم يستحقّون موقعهم؟ بالأسف الجارح الذي لا طائل منه؟ ألا يجدر بنا أن نكفّ عن التلهّي ونلزم المحبّة، فنرحم ونسمّر عينينا على الثابتين على الودّ؟ على الذين يشهدون لله بالقول والفعل؟ على الذين رضعوا الوفاء لإنجيل رسم أنّ الارتباط بالله يمرّ بالإخوة؟ على الذين يريدون سواهم كبارًا؟ على الذين يحبّون بصدق، يحبّون الرؤية الجديدة التي هي أساس الكبار وتأسيسهم؟!
عندما استدعانا ألبير لحّام إلى خدمة جنازته، أيضًا منعتني ظروفي من تلبية الدعوة. في آونة توزيعه الكلمة، كان لي بعض موانع. ومُنعت في أوان الصمت. لقد أرادنا التزامنا حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة أن نتحرّر من بقائنا فقراء في فهم الكلمة، الكلمة التي كانت غنى ألبير. لقد سبقنا ألبير في بلوغه حرّيّة الصمت! ثمّة دعوة غنًى ما زالت أمامنا؟ فهل سنُعطى أن توجَّه إلينا؟ هل يمكن أن نكمل الخطى؟