إنطلاق نضال مارتن لوثر كينغ اللاعنفيّ في ذكراه الخمسين (1955-2005)
مقاطعة باصات مونتغومري بغية إزالة التفريق العنصري فيها
إلى ولدي غسان الذي نبّهني إلى المناسبة
مقتبس عن كتاب:
Martin Luther King, Combats pour la liberté (Stride Toward Freedom, New York, 1958) Traduit de l’américain par L. Jospin et A. Pidoux, Petite Bibliothèque Payot, Paris, 1968)
تقديم:
وقد خطر على بالي أن أجمع الجزئين وأنشرهما في مقال متكامل، عندما أعلنت وسائل الإعلام العالمية، في 25 تشرين الأول 2005، نبأ وفاة روزا باركس Rosa Parks، عن عمر بلغ 92 عاماً، وروزا باركس هي تلك الخياطة السوداء التي أدى تمرّدها الشجاع على نظام جائر، إلى انطلاق مقاطعة باصات مونتغومري، التي كانت فاتحة كفاح مارتن لوثر كينغ اللاعنفي من أجل منح السود في الولايات المتحدة حقوقهم المدنية السليبة. لذا سماها الأميركيون بحق “أم الحقوق المدنية”.
رجائي أن يساعد هذا المقال على استرجاع ذكرى صفحة رائعة من صفحات نضال وضع أسسه المهاتما غاندي، وهو يجمع شرف الهدف ونبل الوسيلة وفاعلية الأثر.
******************
مقدمة الكتاب:
في مقدمة هذا الكتاب، يقول المؤلف انه يروي فيه الأحداث التي حوّلت، خلال بضع سنوات، مدينة صغيرة من مدن جنوب الولايات المتحدة الأميركية، ألا وهي مونتغومري، في ولاية ألاباما. ويوضح أنه يروي تلك الأحداث من منظاره الشخصي، ولذا اضطر أن يستعمل صيغة المتكلم، مع أن الموضوع، كما يقول، موضوع جماعي، كونه، حسب تعبيره، “مغامرة خمسين ألف أسود أميركي تبنوا مبادئ اللاعنف فتعلموا أن يناضلوا من أجل حقوقهم بأسلحة المحبة، وبذلك استعادوا اكتشاف قيمتهم ككائنات بشرية” (ص 5). إنها قصة قادة سود ينتمون إلى مذاهب وإيديولوجيات مختلفة، جمعتهم قضية كانوا يعرفونها عادلة، كما إنها قصة الذين تبعوهم والذي فضّلوا – رغم كون الكثيرون منهم مسنّين – أن يقطعوا كل يوم مسافة 17 كيلومتراً، طيلة أكثر من سنة، مشياً على الأقدام، في ذهابهم إلى عملهم وإيابهم منه، على أن يقبلوا الإهانة والإذلال الناتجين عن التفريق العنصري في الباصات، وقد أدركوا المعنى العميق لعملهم هذا، مما جعل عجوزاً منهم تجيب الذين سألوها إذا كانت لم تتعب بعد عدة أسابيع من المشي، بقولها: “إن قدميّ قد تعبا، ولكن نفسي مرتاحة”. (ص 6).
تلك القصة، كما يشير المؤلف، تتعدى نطاق مدينة معيّنة، إنها حلقة من حلقات نضال السود الأميركيين اللاعنفي من أجل حقوقهم كبشر ومواطنين.
1 – نشأة مارتن لوثر كينغ في الجنوب العنصري
في الفصل الأول من كتابه، يروي لنا المؤلف الظروف التي قادته إلى الإقامة في مونتغومري، تلك المدينة العريقة بمواقفها العنصرية إذ عُرفت تاريخياً على أنها مهد اتحاد الولايات الجنوبية التي أعلنت عام 1861 الانشقاق عن الولايات الشمالية بسبب إعلان أبراهام لنكولن تحرير العبيد.
نشأ مارتن لوثر كينغ في مدينة أطلانطا، في ولاية جاورجيا الجنوبية، وعانى فيها منذ طفولته من التفريق العنصري في المدارس والعيادات والمطاعم والمسارح ودور السينما والمساكن وسُبل المياه ووسائل النقل وقاعات الانتظار والمراحيض. وكان والده قسيساً لرعية معمدانية من أربعة آلاف نسمة، وقد رفض طيلة حياته التفريق العنصري وناضل ضده، وقد أخذ ولده عنه ذلك الموقف بالذات.
2 – عودته إلى الجنوب بعد انتهاء دراسته (1954)
تابع مارتن لوثر كينغ دراسته في جامعة بوسطن وكان على وشك الحصول على شهادة الدكتوراه في الفلسفة. بقي عليه فقط أن يكتب أطروحته. كان متردداً بين القسوسية والتعليم. وقد طرحت عليه عروض مغرية في المجالين. فكانت رعيتان، إحداهما في ولاية ماساشوستس والثانية في نيويورك، ترغبان به راعياً لهما، كما أن ثلاث جامعات في الشمال قد عرضت عليه إحداها مركز أستاذ والثانية مركز عميد والثالثة مركزاً إدارياً.
في هذه الأثناء أعلمته رعية بشارع دكستر في مونتغومري أن مركز الراعي قد اصبح فيها شاغراً وأنها ترجوه أن يأتي ويلقي عظة فيها، وبالفعل أتى وألقى هذه العظة التي صادفت تجاوباً من السامعين. وعلى إثرها عُرض عليه أن يرعى تلك الرعية. فبحث في الأمر مع زوجته كورتا التي كان قد تزوج منها قبل ذلك بعام بعد أن تعرّف عليها في بوسطن عندما كانت تتخصص بالغناء في الكونسرفاتوار. تدارس الزوجان الأمر معاً وصلّيا. كان يصعب عليهما أن يعودا إلى الجنوب العنصري وأن يعيشا مجدداً في الجو المؤلم الذي عانيا منه في طفولتهما وشبابهما، بينما كانت تتفتح أمامهما مجالات عمل مغرية في الشمال حيث التفريق العنصري أقل حدّة. ولكنهما توصلا إلى القناعة بأن واجباً يترتب عليهما بأن يعودا إلى مسقط رأسهما بعد أن نعما بالدراسة في مناطق أكثر تحرراً وأن يساهما بواسطة ما أنشآه من علاقات وما حصلا عليه من خبرة، في إزالة التمييز العنصري الذي تألما منه.بناءً عليه قرّر مارتن لوثر كينغ أن يقبل بعرض رعية شارع دكستر لبضع سنوات. فاستلم مسؤوليته في أيار 1954، ومارسها أولاً بشكل متقطع إلى أن أنهى أطروحته. بعد ذلك تسلّمها بشكل كامل ابتداءً من أول أيلول 1954. كان له آنذاك من العمر 25 عاماً.