السعي إلى الكمال – المطران جورج (خضر)
عندما يتكلّم الناس يقولون: فلان لا يكذب ولا يقتل ولا يزني وما إلى ذلك، إنّه آدميّ أي أنّه من جنس البشر ويظنّون بذلك أنّهم يعطونه شهادة قداسة. إنّ مَن لا يسرق ولا يقتل … لا يدخل السجن وهذا يجعله في أفضل حال مواطنًا صالحًا. أمّا في المسيحيّة فكلّ هذه الأمور يُفترض أنّ المؤمن يعمل بها. لذلك اكتفى السيّد في جوابه الأوّل لهذا الشابّ: لتدخل ملكوت السماوات لك أن تحفظ الوصايا، وعدّد له بعضها. وكأنّ هذا الشابّ الذي حفظ كلّ هذه الأمور منذ صباه كان يبحث عن شيء آخر ليدخل ملكوت ربّه، هذا الشيء الذي جاء المعلّم الجديد ليعلنه في الجليل والسامرة وإلى أقاصي الأرض.
لمّا قال الشابّ إنّه حفظ الوصايا أجابه يسوع: «واحدة تعوزك بعـد: بعْ كلّ شيء لك ووزّعه على المساكين.. وتعال اتبعني». يقول بعض الشرّاح إنّ هذه نصيحة أعطاها السيّد. الشابّ كان كاملاً لأنّه يحفظ الوصايا والسيّد قدّم له نصيحة إذا أراد الأفضل، وهذه النصيحة موجّهة إلى بعض الناس وليست إلى كلّ الناس. هذا شرح يسعى إلى إرضاء الأغنياء. الإنجيل لم يقل هذا. لكنّه قال واحدة تعوزك بعد، أي أنّها أيضًا أمر أساس ضروريّ لكي تدخل ملكوت الله.
ثمّ تابع السيّد قوله بشدّة: «ما أعسـر على ذوي الأمـوال أن يدخلوا ملكوت الله. إنّه لأسهل أن يدخل الجمل في ثقب الإبرة من أن يدخل غنيّ ملكوت الله». وضعنا السيّد أمام صعوبة كبرى ولا نستطيع أن نهيّنها. ليس الإنجيل بهيّن ولكنّه صعب، ويجب أن نقتحم الصعوبة وأن نفهم كيف نستطيع رغم الصعوبة أن نخلص. مهما كان تفسير ثقب الإبرة فإنّها تعني بأقلّ تعبير الصعوبة الكبرى التي للأغنياء أن يدخلوا ملكوت الله.
كيف يجب إذًا أن نعمل؟ قال الله على لسان داود في المزامير «بدّد أعطى المساكين فيدوم برّه إلى الأبد»، أي أنّك لا تستطيع أن تبقى غنيًّا بلا مشاركة. ما معنى قول السيّد أن بعْ كلّ ما لك واعطه للمساكين؟ هل هذا يعني أن يبيع كلّ غنيّ بيته وأرزاقه ويتسوّل في الشارع؟ لا يمكن أن يكون هذا القصد الأوّل. القصد الأوّل أن نجعل الناس شركاء في المال الذي نحن وكلاء عليه. المسيحيّة أعطت تفسيرًا واحدًا لهذا على لسان آبائها عندما قالت: «المال الذي لديك هو أصلاً لكلّ الناس «للربّ الأرض وكمالها، الدنيا وكلّ الساكنين فيها». والمال الذي لديك أنتَ مفوّض لإدارته من أجل الناس ومن أجل فائدتهم. ولكن أن تحتكره من أجل الترف ومن أجل البذخ فهذا مرفوض لأنّك بالترف لا تستطيع أن تجعل الناس شركاء لك.
هذا يعني بأقلّ تعبير أنّ الغنيّ، من حيث المظهر والمأكل والأثاث يعيش كبقيّة الناس، ولا يتمتّع بالدنيا أكثر من سواه، ولا يتمتّع بصورة تؤذي الفقير وتجرحه. يعيش الغنيّ براحة لا بمظاهر مترفة فاحشة. ويشارك الناس الذين حوله في العطاء، العطاء الجسيم.
في العهد القديم كانوا يقولون إنّ على الانسان أن يُعطي عشر أرباحه للفقراء. هذا لم يبقَ في العهد الجديد. لم تبقَ القضيّة نسبة معيّنة في المسيحيّة حتّى لا نُخفّف ما فُرض على العبرانيّين بل لنزيد على ذلك.
ليس كلام السيّد نصيحة بل أمرًا إلهيًّا نهائيًّا لكي نحسّ بأنّ الآخرين شركاؤنا في ميراث الله وبأنّهم واحد معنا. تعال وافتح جيبك وافتح قلبك واعطِ وأحبب الناس الذين تمدّهم بالعطاء. لا تمنّن أحدًا بل اعتبر أنّ الفقير سيّد عليك لأنّه أعطاك فرصة لكي تصبح إنسانًا ثريًّا. وإذا مشيتَ على دروب العطاء الواسع وبدّدتَ فلا تعتبر نفسك شيئًا، ولكن ارتجف لأنّ الله قال إنّه عسير على الأغنياء دخول ملكوت الله.
جاورجيوس مطران جبيل والبترون وما يليهما (جبل لبنان)
تشرة رعيتي
26 تشرين الثاني 2017