خشبةُ الصليب

الأخ الياس توما Monday March 12, 2018 739

هي الليلة الأشْدَّ قساوةً في العمر البشريّ على الأرض ..

ليلةٌ فيها تمَحوَر العالمُ كلُّه في نقطةٍ واحدة .. لن ينسى أحدٌ ممّن آمن وممّن لم يؤمن تلك الخشبة ..

تمرّ السنون ونجلسُ قبالتها نتأمّلُ المُستَكينَ عليها .. الفاتحُ ذراعيه والممدِدُ جسده طوعاً لأجلنا.

الصّليب حكايةٌ أزليّةُ الوجود .. للبشر حكايا كثيرة لكنّ الصّليب متجذِّر في قلبِ الوجدان الجماعيّ لنا .. ومُنتصِبٌ في اللّاوعي صارخاً صوتاً يعلو دوماً في كلّ مفاصل مسيرتنا الشّقيّة ..

في قلب الفردوس بدأ .. وهبنا ربُّنا كلَّ شيء وسلَّطَنا على كلِّ شيء وَعصَينا تلك المحبّة الواثقة وصلبناها على شجرةٍ وحيدة وصَلت بذورُها إلى يومنا هذا ..

تمضي تلك الخشبة لتهويَ مع إنسانِنا الأوّل .. تهوي ليجعل منها ذاك القاتل الأوّل مقبضًا لسكّينه وليذبَح به أخاه .. و يهرب ..

لكن .. تبقى هذه الخشبة مع العمر الشقيّ البعيد عن نِعم الله يومَ كان الله حاملاً كلّ شيء عنا.

بعد حين تصل لِيَدِ نوحَ لتصبح فُلكاً يحمل خلاصنا مرّةً أخرى .. يمضي مُبحراً بها في عواصفِ شيطان الدّهر الحاضرِ الخدّاع ويَرسو على برِّ الأمان ..

يُزهر هذا الفُلك زنبقاً ولوزاً ومحبّةً .. تشتد ُّحمْقَةُ أفعالِنا وتلتهمُ نار آثامِنا تلك الخشبة في نينوى ..

يستكين يونان في جوفِ الصّمت و تستكين معه تلك النّار ..

يضرب موسى البحر بتلك الخشبة يشعَرُّ البحر في جفاف الجنس البشريّ ويغرسها في واحدةٍ لتزهر مرَّةً أخرى، وهذه المرة يمُّد الرّب يدَه لنا في عقدِ شراكةٍ جديد وَرَقَتُها قطعٌ من الخشبةِ مصلوبٌ عليها اسحاق ومدادوها محبّة ابراهيم وصدق الجيل الآدمي كاملاً ..

يدُ ابراهيم ترجو عشقَك ربّي و ضمَّة صدرك يا حبيبي .. أتاه الجوابُ كرسيّاً من الخشبة ذاتها جلسَ عليه يوسف وأعاد المجدَ لصادق الأُناس ممّن تلمَّسوا دربَ الجلجلة ..

لكنّ تواضعَ الرّب حوّل تابوتَ العهد لمزودٍ بسيط ارتضى أن يجلس به متأنساً في مغارةٍ بسيطة من ذات الخشبة .. امتهنها الربّ في رحلته على الأرض ليخبرنا أنّها خلاصنا .. و أنّها فرح العالم ..

صنع خشبتين .. ووضعهما فوق بعضهما بشكلٍ متقاطع ..

الأولى جعلها عاموديّةً لها ماهيّة الجسر الممتدّ من الأرض إلى قلب الآب السماويّ،

والثانية أفقية .. جنبها الأيمن شعبُه الذي اجتاز كلّ العمر باحثاً عنه و مرتجياً محبّته مع كلّ الشقاء والإثم والسّقطات .. وجنبها الأيسر شعبُه الذي سيجتاز باقي العمر منتظراً مجيئه المرهوب المجيد .. ليلتقي التاريخ مع الحاضر في المستقبل ويصعد الجميع مع الرّب في ملكوته ..

هذه هي حكاية الصّليب .. لها بداية و ليس لها نهاية ..

أراه كلّ يومٍ .. أرسمه على جسدي هذا الفاني ليحيا كلُّ ما فيَّ به وأصير نوراً

أقبِّلهُ كلّ يوم بشفاهٍ عطشى لحرارةِ حنانهِ .. حرارة بعيدة عن برودة العالم وظلام الزّمن ..

أحمله كلّ يوم لأنّه خفيف .. نعم هو ليس بثقيل .. هو خفيف هذا ما أخبرنا به القديس لوقا الطّبيب الماقت الفضّة .. هو خفيف يا بنيّ لأنّك تحمله برفقة الرّب.

بقلم: الأخ الياس توما

70 Shares
70 Shares
Tweet
Share70