تحية إلى المؤسّس !

جورج.غ Thursday March 15, 2018 1605

اليوم بالذكرى السادسة والسبعين لتأسيس حركة الشبيبة الأرثوذكسية، هذه الحركة التي أطلقَها دفقُ روحٍ في أنطاكية مطلع  الأربعينات فغيّرت وجه الأرثوذكسية في هذا المشرق وجعلت العربية تتنصّر وأنطاكية تعود إلى  قلب العالم الارثوذكسيّ.

نحتفل بهذه الذكرى وانتَ قد «أتمَمت سعيك وحفظت الإيمان» وانصرفت إلى  مناجاة وجه السيد. ولكنّك ما زلت تدعونا  بإلحاح إلى  أن نأخذ نورًا « من النور الذي لا يعروه مساءٌ».

في العيد سيّدي، نشكر الله الذي أرسلك إلى  كنيسته، ونشكرك لأنك «قدّست ذاتك من أجلنا»، وكنت «قضيباً ساهراً» من أجل خلاصنا.

في العيد نسترجع ما حقّقت علّنا ندرك أن كلًّا منّا قادر أن يُبقي شعلة النهضة متّقدة يومَ يشعر أنه «وحده مسؤولٌ عن الكنيسة»، كما كنت أنت وكما، دائما،ً تذكّرنا.

فأنت تلميذٌ سمعَ النداء، تركَ كلّ شيء وتبع صوت المعلّم. رحت تجوب مدن وقرى لبنان وسوريا من أجل أن يصل الصوت، صوته إلى  الجميع، ولسان حالك «تعالوا وانظروا ما أطيب الربّ».

وأنت متخرّج من كلّية الحقوق، تركت مهنةً ما أتيحت ذلك الزّمن لغير النُّخَب، وذهبتَ إلى  فرنسا، لتتعمّق في معرفة متطلّبات الكلمة. وهناك، في معهد اللاهوت، عشت فقيراً، عرفتَ الجوع الحقيقيّ خصوصًا يومَ تأخَّرت منحتك الدراسيّة وقضيتَ خمسين يوماً تقتات خبزًا وشاي. لم تتأفّف، سيّدي، ولم تتراجع ولم تخبر أحداً بذلك إلى  أن اكتشفَت صديقةٌ لك الأمرَ أثناء زيارتها باريس، فرأت النحول البادي على وجهك كما روَت لنا، وكم من مرّة كنتَ تقلّل من أهميّة هذا الأمر حين نسألك عنه.

وأنت شابٌّ، انصرفتَ إلى  النّشر. أسّست مجلَة النور، ورأست تحريرها، وكتبتَ مقالاتها، ودرّبتَ كتّابها. وأوْلَيْتَ نشر الكتب اهتماماً كبيراً من خلال «منشورات النّور»، المنشورات شبه الوحيدة ذلك الزّمن، التي ثقّفت المؤمنين طيلة ما يزيد عن النصف قرن.

وأنت راهبٌ، سعيتَ إلى  أن تعيد الرّهبنة الرّجالية، التي اندثرت، إلى  أنطاكية لو لم ينتزعك رؤساؤك من الدّير، غيرَ أنّ حبّك للرّهبنة  دفعك إلى  تأسيس رهبنة نسائية كنتَ ملهِمها ومرشدَها.

وأنت كاهنٌ، انصرفتَ إلى  تعليم المؤمنين ورعايتهم والاهتمام بالفقراء والمستضعَفين والعمّال. ومددتَ الباب الملوكيّ إلى  صفحات جريدة «لسان الحال» حيث أمسى مقالك «حديث الأحد» في الأوساط المؤمنة وغير المؤمنة.

وأنت مطرانٌ، تكرّست كلياً لرعاية أبرشيّتك. فأقمتَ في بيتٍ متواضع أشبه بقلّاية، إليه حجّ كبار في العلم والفكر والسّياسة، ومنه أطلّيت على العالم لتشهد لقوّة التّواضع وفاعليّة البساطة. وفيه أوليتَ خدمة الكلمة اهتماماً خاصّاً، فأصدرتَ أوّل نشرة أسبوعية في أنطاكية. جعلتَ «كلمة الرّاعي» تدخل بيوت أبنائك وتُنشئهم على الكلمة وتصبح مرجعيّتهم. صارت سيّارتك كاتدرائيّتك، فيها تجوب قرى رعايا أبرشيّتك المتنامية الأطراف مرّات ومرّات في السّنة لتحتفل مع أبنائها بأعيادهم وتشاركهم أفراحهم وأحزانهم، ولتعرفهم ويعرفوك. وأوليتَ الفقراء اهتماماً خاصاً، ففتحت أبواب بيتك لهم واستقبلتهم بمحبّة وحنان وخصّصت لهم «أموال الله» للاهتمام بحاجاتهم. ولما هجّرت الحرب رعايا أبرشيّتك انصرفت لإغاثة المحتاجين ومرافقتهم في عذابهم، ورعايتهم أينما حلّوا. أنشأت عشرات الرّعايا الجديدة لمواكبة النّزوح والتّغيير الديمغرافي الذي طال أبرشيتك. وبنيتَ على عهد الحبّ والتوبة عشرات الكنائس التي هدّمتها حرب الجبل، الحرب التي بترت أبرشيّتك لسنوات. وواكبتَ عودة المؤمنين إلى  القرى المهجّرة بالتعليم والبناء في آن. وأوليتَ التّنشئة اللّاهوتية اهتماماً خاصّاً وأمّنت لكهنتك كلّ متطلّبات العيش الكريم. فتحتَ الأديرة المهجورة ونمّيت الدّعوات الرّهبانية. بسطتَ الحرّية التي سمحت بتفتّح المواهب في أبرشيّتك، فكثرت الجوقات ومدارس الموسيقى وازدهر العمل الشبابيّ. وساويت في الكرامة بين الكبير والصغير، العالم والعامل، الوجيه والوضيع، وأتحتَ لهم جميعاً فرصة لقائك المباشر، دون تكلّف وشكليّات، وفرص الخدمة والانضمام إلى  المجالس والهيئات وتفعيل مواهبهم. ابتعدت عن مظاهر المجد الباطل وعن الطقوسيّة والشكليات في الخدمة وانصرفتَ إلى  الجوهر، فكنتَ تدخل الكنيسة قبل المؤمنين، وتجلس بين المصلّين، وتصلّي منتظراً أن يحين أوان خدمتك. وكم رفضت أن يُقرأ لك «الفيمي» خشية أن تتحوّل أنت محور القدّاس وخوفاً من أن يحجب حضورك وجه سيدك.

تضيق الكلمات يا سيدي وتعجز عن اختصار ثمانين سنة من الحراسة في كرم الرّب. اذ كيف يمكن للكلمات أن تختصر ما تصبّب من عرق أو أن تكيل ما بُذل من دماء لكي تبقى “العروس نقية”. كيف يمكن للكلمات أن تصف الجهود التي بذلت لفتح مسالك جديدة في أنطاكية لم يفتحها أحد من قبلك؟ كيف يمكن للكلمات أن تختصر جهودك من أجل تجديد العالم الارثوذكسيّ وتحقيق وحدة المسيحيين؟ وكيف يمكن للكلمات أن تختصر حبّك للإنسانية جمعاء، ورقّة قلبك التي جعلتك تنفتح على الجميع وتعمل من أجل خلاص العالم واكتشاف، وكشف، «المسيح النائم في ليل الأديان» وفي هواجس وتساؤلات غير المؤمنين؟ كيف يمكن للكلمات أن تروي مقاربتك بعفوية تحدّيات الأرض بمنطق السماء وكأنّك مجبولٌ من نور؟ كيف يمكن للكلمات أن تنقل عشقك للسيّد وبريقَ عينيك المغرورقتين بالدموع فيما أنتَ مُنحنٍ أمام المائدة المقدّسة مخطوفٌ إلى  وجه سيدك؟ كيف يمكن للكلمات أن تصف تواضعك وبساطتك وصبرك المقدّس على أبناء رعيّتك؟ كيف يمكن للكلمات أن تصف رعايتك المتواصلة للشّباب وتوثّبك في الكهولة لقضاياهم وكأنّك أحدهم؟ كيف يمكن للكلمات أن تعكس وهج النور البادي على وجهك وأنت تستعيد أمامنا لحظات تأسيس الحركة وكأنّك تُعيد تأسيسها معنا هنا والآن؟

فيا «رجل الله»، وَيَا عاشق المسيح المصلوب والقائم من الموت. يا من انسكب قرباناً على طرقات أنطاكية، وعلى مدى العالم الأرثوذكسيّ من أجل أن نعيش في كنيسة بهيّة ناهضة. يا أباً للكنيسة الجامعة استراح من هموم الرّعايا وانصرف لمناجاة المسيح في خدره. يا من يبقى لنا قدوة وتبقى كلماته إطلالات الكلمة إلينا. صلِّ من أجل أنطاكية لكي تبقى على عهد الحبّ ومن أجلنا لكي نبقى أمناء على “الوديعة”. صلِّ من أجل العالم الأرثوذكسيّ الذي تعصف به القوميّات المتناحرة. صلِّ من أجل وحدة المسيحيّين. وصلِّ من أجل المعذّبين في هذا المشرق الذي لطالما حملت قضاياهم وقضايا أمثالهم في الأرض. صلِّ لكي نستنير دائماً بأنوار القيامة ونشهد لها في العالم كلّه. صلِّ لكي لا نُحني رؤوسنا لغير الكلمة وغسل أرجل الإخوة المحتاجين. صلِّ لكي لا نقدّس الجمود أو نخشى الانفتاح ولكي لا نبني أصناماً على صورة أهوائنا ومخاوفنا. صلِّ من أجلنا لكي لا نستبدل المسيح بأي ثوب من الأثواب التي تحجب جسده المدمَّى “من أجل حياة العالم”. صلِّ لكي نبقى متحرّكين إلى  الذي “به نحيا ونتحرك ونوجد” ومنه إلى  كل وجه نلقاه في حياتنا. صلِّ لأن يصير كلٌّ منّا الحركة التي نزلت عليك والتي حقّقت كمال رؤيتها في مسراك وتعليمك.

سنوك عديدة أيها الأب المؤسّس والمعلم.

سنوك عديدة أيها النور الذي يقودنا إلى  “النور الذي لا يعروه مساء”.

222 Shares
222 Shares
Tweet
Share222