جعل يوحنّا كتابه من ثلاثين فصلاً، على عدد سنيّ المسيح قبل مباشرته الرّسالة الخلاصيّة، متحدّثًا في كلّ فصل عن اكتساب فضيلة من الفضائل أو عن خطر رذيلة ودحرها واقتلاعها من جذورها؛ معتبرًا أنّ في ذلك ارتقاءً لدرجة على السّلّم المصعِدة إلى السّماء، تلك السّلّم التي رآها يعقوب في الحلم الذي رآه في بيت إيل، كما يُخبرنا سفر التّكوين.
المقالات الثلاثة الأولى تبحث في نقطة انطلاق الحياة الرّهبانيّة وهي “الزهد في هذا العالم البطّال واعتزاله” و”في التّخلّي عن كلّ شيء” و”في الغربة”.
ولئن لا يعتزل كلُّ مسيحيّ العالمَ إلاّ أنّه يجب أن يحيا فيه زاهدًا وواضعًا نصب عينيه قول الرّبّ يسوع، أنّنا “في العالم” ولكنّنا “لسنا من هذا العالم” (يو 14:17و16)، وذلك لكوننا أبناء الله ويقودُنا روحُ الله وليس روح العالم. ولذا فإنّ “مواطنيّتنا هي في السّماء” (في 20:3)، فنحن”غرباء ونزلاء في هذه الأرض” (1بط 11:2)، يقول كاتب رسالة بطرس الأولى، ويوصينا: “فسيروا زمان غربتكم بخوف” (17:1).
هذه المنطلقات لحياة المسيحيّ في العالم هي نفسها الّتي حدّت بالرّاهب إلى الزّهد كلّيًّا في العالم واعتزاله، مبتغيًّا الكمال الذي أشار إليه الرّبّ في قوله للشّاب الغنيّ: “إذا أردت أن تكون كاملاً، فاذهب وبِعْ كلّ ما لك ووزّعه على المساكين؛ وتعالَ اتبعني”.
والدّرجات الأربع الأخيرة تبحث في “الهدوء المقدّس، الجسديّ والنفسيّ”، و”في الصّلاة المقدّسة المغبوطة أمّ الفضائل”، و”في اللاهوى، وهو الكمال المتشبّه بالله”، و”في المحبّة والإيمان والرّجاء”. إنّها مرحلة الكمال التي كرّس الرّاهب حياته لأجل الوصول إليها. إنّها تدخله السّماءَ وهو بعد في هذا العالم.
ونحن في هذا العالم، مطلوب منّا الكمال في التّواضع والوداعة: “تعلّموا منّي فإنّي وديع ومتواضع القلب” يوصينا الرّبّ يسوع، وهذا الكمال في الوداعة والتّواضع يؤول بنا إلى الهدوء المقدّس: “فتجدوا راحة لنفوسكم”، يتابع الرّبّ يسوع مبيّنًا نتيجة طاعة وصيّته هذه. كما أنّه مطلوب منّا الكمال في المحبّة: “أحبّوا بعضكم بعضًا كما أنا أحببتكم”، إنّها وصيّة الرّبّ يسوع الأخيرة لتلاميذه. وهي الدّرجة الأخيرة في “السّلم”.
ولكن ما يُميّز الكمال الرّهبانيّ هو الصلاة القلبيّة الدائمة التي تدعم الوداعة والتّواضع والهدوء والإيمان والرّجاء. إنّها “أمّ فضائل الكاملين”. إنّها تجعل الإنسان يحيا وقلبه سماء ومسكنًا لله.
وما بين المنطلق في اعتزال العالم والكمال في الوصول إلى حياة ملائكيّة، نجد درجات الجهاد النّسكيّ في اجتثاث الأهواء من القلب وغرس الفضائل فيه. وقد جعلها السّلميّ 23 درجة.
نجد بداية مرتكزات الجهاد الرّوحيّ الأربعة: 1. طاعة الأب الرّوحيّ، 2. التّوبة الدّائمة المتواصلة، 3. ذكر الموت، 4. النّوح الحامل الفرح.
وفي كلامه على الطّاعة والتّوبة الدائمة قدّم يوحنّا نماذج حيّة من دير زاره قرب الاسكندريّة، وهي نماذج مؤثّرة جدًّا. وهذه الفصول من أطول فصول الكتاب، وهذا ما يدلّنا على الأهميّة البالغة التي يوليها السّلّميّ لهذين المرتكزين. أمّا “النّوح الحامل الفرح” تلك الموهبة الإلهيّة التي تؤازر توبتنا الصادقة، فإنّه العضد الإلهيّ الملازم دومًا للمسيرة الجهاديّة. فالدّموع والصلاة هما ماء وهواء المجاهد.
ثمّ يتناول السّلّميّ في الأهواء ومجاهدتها في 16 مقالة، يبحث فيها في 15 عدوًّا من أعدائنا. وإذ ينطلق السّلّميّ من تقسيم ثلاثيّ معروف لقوى النّفس البشريّة إلى غضبيّة وشهوانيّة وذهنيّة، فإنّه يوزّع الأهواء إلى:
+ أهواء غضبيّة حماسيّة: 1. الغيظ (ويبحث معه الفضيلة المقابلة له وهي الوداعة)؛ 2. الحقد؛ 3. الوقيعة؛ 4. إكثار الكلام (ومقابله الصمت)؛ 5. الكذب؛ 6. الضجر.
+ أهواء شهوانيّة: 1. الشّره (السّيّد الكثير الأذى والمستحبّ عند الجميع)؛ 2. الزّنى (يحمل المقال عنوان الفضيلة المقابلة: “في الطهارة والعفّة …”)؛ 3. حبّ المال (ويخصّص مقالة منفردة للفضيلة المقابلة: “الزهد في المقتنيات”).
+ أهواء الذّهن: 1. عدم الحسّ؛ 2. النّوم في وقت الصلاة (ويخصّص مقالة لنقيضه “سهر الجسد”)؛ 3. “الجبن الصّبيانيّ عديم الرّجولة”؛ 4. “العُجب الكثير الأشكال” (وهو إعجاب الإنسان بذاته)؛ 5. الكبرياء 6. التّجديف (ويجمعه مع الكبرياء في مقالة واحدة).
وبعد مجاهدة الأهواء يحين الكلام على ثمار الحياة الجهاديّة، وهي: 1. الوداعة والبراءة المكتسبة؛ 2. التّواضع الجليل مبيد الأهواء؛ 3. التّمييز: “تمييز الأفكار والأهواء والفضائل”. ولأهميّة التّمييز يستفيض السّلّميّ في الكلام عليه ويقسم المقالة المخصّصة له إلى ثلاثة أقسام منفصلة. ومَن اكتسب هذه الفضائل يكون قد اجتاز مرحلة مجاهدة الأهواء وبلغ مرحلة الاستنارة.