بقلم الأرشمندريت انطونيوس (سعد)
إن القدّيسة مريم المعيَّد لها في الواحد من نيسان والمخصّص لها الأحد الخامس من الصّوم الأربعينيّ المقدّس هي مسارٌ حقيقيّ لمن يرغب في الغوص بعالم التّوبة.
بادئَ ذي بدءٍ، لا بدَّ لنا أن نشرَح معنى كلمة توبة لكي نفهم ماهيّة التّوبة الحقيقيّة بلغة آباء الكنيسة.
التّوبة هي تغيير الذّهن، تغيير الأفكار، تغيير نمط الحياة…التّوبة هي الابتعاد عن ما يشدّك إلى التراب وتحويل البوصلة إلى الهدف المرجوّ!! أعني به الاتّحاد بفكر المسيح. لا يمكن للإنسان أن يحيا حياة توبة إن لم يتجدّد بنعمة الله «تغيّروا عن شكلكم بتجديد أذهانكم» (رومية ١٢: ٢).
إنّ حياتنا كلّها على الأرض هي زمن توبة مستمرّة حتّى الممات. يقول القدّيس اسحق السريانيّ: «التّوبة ضروريّة لكلّ من يرغب في الخلاص، للخطأة والصِّدّيقين على السّواء. الكمال لا يعرف حدودًاكما أنّ كمال الكاملين يبقى ناقصًا، لذا، تبقى التّوبة ناقصة حتّى لحظة الممات».
+ + +
تأتينا قصّة فتاةٍ يافعةٍ، جميلةِ الطّلعة، عاشت في الاسكندريّة في اللّهو سنينَ طويلة، هي القدّيسة مريم المصريّة. ركبت سفينةً متّجهة إلى أورشليم، رغبةً منها في استهواء الشّباب الذاهب إلى الأراضي المقدّسة للسجود لعود الصّليب… لم تستطع الدّخول إلى كنيسة القيامة لتسجد للصّليب المقدّس بسببٍ من خطيئتها، ولكن عندما توسّلت متضرّعةً إلى العذراء مريم أنّها ستغيّر مسار حياتها، إن سمحت لها بالدّخول، عندذاك، كان لها ما أرادته؛ وبعدها توجّهتإلى برّية الأردن لتدخل في خبرة نسكيّة حوّلت حياتها إلى قداسة.
+ + +
يوجد صراع مستمر في الإنسان بين الرّوح والجسد. الرّوح ترغب في التّسامي إلى عالم الإلهيّات، والجسد يتلذّذ بإشباع ترابيّتِه -أهواءِه وشهواتِه- من ماديّة هذا العالم. الإنسان شتّان بين ما يريده من دنياه وبين ما يريدُه الله منه. الله يريدنا أن نتقدّس «كونوا قدّيسين لأني أنا قدّوس» (1بطرس ١: ١٦). وهنا يُطرح السّؤال: ما هو السّبيل للوصول إلى القداسة؟ نعلم، بحسب تعليم الكنيسة، أنّ المؤمن يكتسب النّعمة الإلهيّة عندما يعتمد باسم الآب والابن والرّوح القدس. هذا يعني، أنّ الكنيسة منَحته عطيّةَ الله المقدّسة للولوج إلى الكمال المرجوّابتداءً بالتّنقية مرورًا بالاستنارة…القداسة طاقةٌإلهيّة كامنة في الإنسان، تُمنح لكلّ مؤمن يريد الاتّحاد بالرّب يسوع المسيح.
إنّ الإله الذي نعبُده هو إله يحبّ الاتّحاد بقلوب البشر لأنّها هيكله «يا بنيَّ أعطني قلبَك» (أمثال٢٣: ٢٦). القلبُ هو عرشٌ للسّيد الإله الذي سُرّ منذ البدء أن يسود عليه؛ هذا ما عناه الرّب يسوع بقوله: «ملكوت السّموات في داخلكم» (لوقا١٧: 21)، أي سيادة الله على قلوبكم…عندذاك تستقيم حياة الإنسان ويتقدّس.
هذا ما صارت عليه القدّيسة مريم المصريّة بعد توبتها، تحوّلت من إنسانة عشِقَت الخطيئة حتّى الشّبَق، إلى مؤمنةٍ بارّة جسّدت نموذجًا حيًّا في كتاب القدّيسين التائبين.
ألا أعطانا الرّب الإله بركةَ شفاعة القدّيسة مريم المصريّة لنَعِيَ ضعفَنا ونتوب إلى ربّنا.