لا تكن غير مؤمن

نشرة رعيتي Thursday April 12, 2018 867

مفارقة كبيرة تبرز من قولين متقابلين أوّلهما قول بولس «عالمين أنّ المسيح بعدما أقيم من الأموات لا يموت أيضًا» (رومية 6: 9)، وثانيهما قول يسوع لتوما في إنجيل اليوم: «هات إصبعـك الى ههنـا وعـاين يديّ، وهات يدك وضَعْها في جنبي» (يوحنّا 20: 27)، ثمّ يردف الربّ: «ولا تكن غير مؤمن بل مؤمنًا». أجل لا يموت المسيح من بعد قيامته لكنّه يحمل في جسده المجيد آثار الموت إلى الأبد ليقول للناس إنّ جسده، بكلّ ما احتمله من بؤس، هو الذي صعد إلى العلى. هذا الذي نزل إلى أسافل الأرض هو الذي كان قادرًا على أن يصعد فوق السماوات كلّها ليملأ كلّ شيء» (أفسس 10: 4).

الجالس في ديمومة المجد يحمل جروح الخطيئة وقد رضي الربّ أن يسحقه بالعاهات (إشعياء 53: 10). فإذا رأيناه ظافرًا حتّى نهاية العالم نعرف أنّه اليوم أيضًا يأخذ عاهاتنا ويحمل أوجاعنا في أعجوبة الوحدة القائمة بين الألم والظفر، بين الترابيّة والضياء. كأنّ كلام السيّد لتوما أنّ معجزة الإيمان ليست أن تقرّ بأنّ المسيح كان إلهًا من جهة وإنسانًا من جهة بل أن تقرّ الاثنين معًا. وقد تكون المعجزة ليست هذه بل أّنّه أبدًا إله في الناسوت وإنسان في اللاهوت أي أنّه الإله الذي لا يدرك عمق ألوهيّته إلاّ لكونها انتسبت- وهي غير منسوبة- إلى هذه الإنسانيّة المتكسّرة الصائرة أبدًا دمًا، وأنّه أيضًا الإنسان الجريح الذي يعرف أنّه مشدود إلى إلهيّة حلّت فيه حتّى السكنى والاحتجاب، إلهيّة غير مجرّدة كما تقول صلواتنا. ولعلّ التجربة الكبرى من جهة أن تكون إنسانًا غير منسوب إلى الألوهة الهابطة عليك والناهدة منك، ومن جهة أن تكون سجين ألوهيّة لا تنزل ولا تنتسب ولا تحبّ ولا تتأثّر، وتاليًا لا يعرفها أحد فلا تخلص.

أي إيمان كان إيمان توما؟ العبادات تجلّ الرسول لأنّه كان شاهدًا للقيامة: «يا لمستطرف عدم تصديق توما الجميل إذ أقبل بقلوب المؤمنين إلى المعرفة». هاجس طقوسنا أن يعلم الكلّ بآلام السيّد وقيامته وأن يشاركوا توما في الهتاف: «ربّي وإلهي». هذا صحيح لكنّه ليس وصفًا لمضمون إيماننا بالتجسّد. فالمضمون يبقى أنّ المسيح الإنسان لم يكن شبحًا وأنّ المسيح الإله ما كان مجرّدًا. الإيمان فرادته في هذا اللقاء في أقنوم حيّ. الإيمان المسيحيّ وجوديّة هذا اللقاء وليس فقط في الطبيعتين ولكن في الحرّيّة، في حرّيّة انسجامهما. المسيح ليس ذلك الكائن النيتشويّ المتفوّق الباهر الكلّ في غطرسات البطولة لكنّه- وهذي عظمته في الناسوت- كان يعمل دائمًا ما يرضي الآب. كلّ انفتاح المسيحيّة في حقيقة هذه الطاعة الحرّة التي كان المسيح يعرفها لحظة لحظة. من جمالات المسيحيّة أنّها تنفي عن الله الاغتصاب من حيث أنّ يسوع عاش حرّيّة كاملة وضمن هذه الحرّيّة نقاوة كاملة. من عظائم المسيحيّة أنّها تنفي الجبريّة نفيًا كلّيًّا وتاليًا تضع الأساس الحقّ للإبداع الإنسانيّ.

إنسانيّتك مرفوعة كما هي ليس فقط في شقاء جسدك بل في جروح قلبك. أنت، متعبًا، مأخوذ إلى فوق. المسيحيّة لا تبدأ بالهدوء. تصل إلى الهدوء وعنده تعرف أن ترى تمزيق البشريّة في لحمها ومشاعرها، وتعرف أنّك أمام هذا التمزيق تبكي وتدعو وتعطي من لحمك ومن دمك الحيّ لا يبقى الإنسان الآخر عظامًا مجرّدة.

وفي آخر المطاف إيمانك قد يستدعي أن تبقى وحدك في هذه الرؤية حين يسلخ الناس بعضهم لحوم بعض. فإذا استرسلوا في الخوف فأنت مؤمن بأنّ يسوع ساكن هذه القلوب الخاشية وأنّه وحده يقبل عنها الخوف. الخوف يعلّمها الانعزال ويعلّمها الكيد ويعلّمها البغض، وأن تنهش لحمك لتثبت لنفسها أنّ لها أظفارًا. ولحمك أنت معطى ودمك أنت مسكوب لكنّك طفل ولا تعرف أن توفّق بين الطفولة من جهة والخوف والانعزال والكيد والبغض من جهة أخرى. وفي لغتك أنت أن تكون إلهيًّا غير مجرّد يعني أن ترى كلّ ذلك وتحبّ، لأنّك إذا لم ترَ فأنت مع أشباح وتاليًا تحبّ هواجسك فقط. كذلك أنت «إنسان غير ساذج» كما قالت صلواتنا، لأنّك لو كنت ساذجًا لما تألّمت ولقد أنعم الله عليك بالألم لينعم عليك برؤية المسيح إلهًا متأنّسًا حاملاً شقاءنا على صليبه وحاملاً صليبه في وسط المجد.

إنّه تدبير إلهيّ قالت صلاة المساء إنّك لم تلقَ توما معهم سيّدي أحد القيامة، لكي تمكّنه من أن يعاين الجنب حيث خرج الدم والماء للصبغة لأنّه قال: «أشاهد الجرح الذي به شفي الإنسان من الجرح العظيم». سيّدي أشاهد جرحك في كلّ جسد طريح، في كلّ روح مكلومة. أؤمن بلاهوتيّة المرضى، بلاهوتيّة الخطأة، بالعشّارين والزواني الذين استغفروا، بكلّ أولئك الآتين من المشارق والمغارب ليجلسوا في أحضان إبراهيم، في حين يطرح أبناء الملكوت خارجًا. أؤمن لأنّي أعرفك عبرهم كما استطعت قبولهم من شفافيّة وجهك، فإذا فتّشت جنوبهم المطعونة انطق بلاهوتك أنت، وإذا مارست «نفوسهم العسرة» أعرف وداعة روحك ولا استعلي، فإنّ جنبي وجنوبهم نالت الطعنة ذاتها ولأنّ نفسي ونفوسهم في العسر عينه. أنا أعلّمهم لا من رؤية نفسي ولكن من رؤية وجهك، هذا الذي رآه الكافرون مصفوعًا ولم يتحرّكوا.

وإذا نحن هكذا دخلنا إلى الناس لا تبقى الأبواب مغلقة خوفًا. أنت تدخل من ورائنا. ولك، إذ ذاك، أن تسامرهم ولنا نحن أن نختفي. وفي نجواك تتكشّف لهم أسرار الوجود.

المطران جاورجيوس

نشرة رعيتي

15 نيسان 2018

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share