المحبّة في وجه التكفير

الأب جورج مسّوح Monday September 15, 2014 311

يعبّر تنامي الحركات الدينيّة المسلّحة عن أزمة عميقة في مجتمعاتنا العربيّة كلّها، وبخاصّة حين لا تستهدف هذه الحركات عدوًّا خارجيًّا، بل تستهدف شريكًا في الوطن، أو تستهدف إضعاف الدولة أو الاستيلاء عليها.

التكفير هو الباب الذي تدخل منه الجماعات المسلّحة إلى تبرير أفعالها العنفيّة. فكلّ مَن لا يؤمن ويعتقد بما تؤمن به هذه الجماعات هو كافر، وكلّ دولة لا تتّبع الشريعة الإسلاميّة في دستورها وقوانينها دولة كافرة، وكلّ مَن يخدم هذه الدولة ويعمل فيها، من موظّفين وقضاة وجيش وشرطة، هو كافر… والكفر، لدى هؤلاء، مؤدّاه استباحة الدماء.

ويذهب التكفيريّون إلى حدّ الاعتقاد بأنّ كلّ مَن لا يتّبع شرع اللَّه، وفق ما يفسّرون ويتبعون، هو كافر خارج عن الأمّة، وإنْ شهد الشهادتين وأقام الصلاة وآتى الزكاة وصام شهر رمضان وحجّ إلى بيت اللَّه. ويستندون، في ما يطلقونه من أحكام، إلى آيات قرآنيّة نزلت بالكفّار والمشركين، وإلى أحاديث نبويّة بعضها ضعيف الإسناد.

كما يعتقد التكفيريّون أنّ الولاء للعقيدة وللإسلام وليس للمسلمين أو للوطن، أو لأيّة أفكار بشريّة كالاشتراكيّة والليبراليّة والقوميّة والعروبة والديموقراطيّة والعلمانيّة وسواها، التي تُعتبر كلّها مفاهيم كافرة يجب القضاء عليها.

هل يجوز، مسيحيًّا، اللجوء إلى العنف في سبيل مقاومة الشرّ المهيمن على بلادنا؟ هذا السؤال يطرحه معظم المسيحيّين في بلادنا، وبخاصّة في ظلّ انعدام أيّ وسيلة لاعنفيّة لإيقاف الإبادة الجماعيّة والقتل المجّانيّ والتهجير القسريّ.

صحيح أنّ المسيح قال: “أحبّوا أعداءكم وصلّوا لأجل الذين يضطهدونكم” (متّى ٥: ٤٥). لكنّه لم يقل أحبّوا الشرّ الذي يصنعونه، وحاشا له أن يقول ذلك. أن يحبّ المرء عدوّه المحبّة الصادقة هي أن يردعه عن الشرّ الكامن فيه. المحبّة الحقّ تفترض التصدّي للأشرار والظالمين والمعتدين. المحبّة توجب مقاومة الشرّ والقضاء عليه، لا مهادنته والاستسلام أمامه.

لا تنفي الوصيّة بـ”محبّة الأعداء” الوصيّة الأخرى بمحبّة الذين أقامنا اللَّه مسؤولين عنهم، أي الفقراء والمضطهَدين والمعذَّبين في الأرض: “إن كلّ ما لم تصنعوه إلى أحد هؤلاء الصغار فإليّ لم تصنعوه” (متّى ٢٥: ٤٥). وقد عبّر أمبروسيوس أسقف ميلانو (397) أفضل تعبير عن هذه الآية الإنجيليّة بقوله: “إنّ الذي لا يصدّ الظلم الذي يهدّد أخاه، في حين أنّه قادر على ذلك، لا يقلّ ذنبًا عن الذي يقترف الظلم”.

يؤكّد اللاهوتيّ الأرثوذكسيّ كوستي بندلي في كتابه “نضال عنفيّ ونضال لاعنفيّ لإحقاق العدالة” (منشورات النور، بيروت، 1988) أنّ النضال اللاعنفيّ هو الصيغة المثلى للمقاومة، ذلك بأنّه يحقّق الانسجام بين الهدف والوسائل، فيستبق تحقيق الهدف عبر الوسائل عينها. ويضيف بندلي أنّه لا يجوز إضفاء صفة الإطلاق على النضال اللاعنفيّ بحيث ينتفي مبدئيًّا وقطعيًّا كلّ سبيل عنفيّ للنضال.

بيد أنّ المسيحيّ إذا توصّل إلى القناعة بأنّ النضال العنفيّ هو السبيل الوحيد لإحقاق العدالة، فيشترط بندلي عليه التقيّد ببعض القواعد التي تبعد هذا النضال عن الانحراف عن خطّه الأصليّ والوقوع في شهوة التدمير العبثيّ والقتل المجّانيّ. أمّا أهمّ هذه القواعد، فهي حصر العنف في هدف إزالة الظلم والقهر والعدوان، وبعد إزالتها الغفران والمصالحة والسلام. لا يجوز، إذًا، اعتماد العنف منهجًا والانسياق وراءه من دون قيد أو شرط، ولو اقتضت ظروف التاريخ القاسية استعماله أحيانًا لردع الطغيان والظلم والعدوان.

يخلص كوستي بندلي إلى الاستنتاج أنّ الخيار بين الأساليب العنفيّة أو اللاعنفيّة للنضال لا يمكن أن يقوم على مجرّد الموقف المبدئيّ، بل ينبغي أن يراعي ضرورات الواقع والسياق التاريخيّ. فمتى استفحل الشرّ واستعصى، فإنّه لا يترك خيارًا آخر لمواجهته بسوى النضال المسلّح. ويعطي مثالين على ذلك الأمر، هما النازيّة والصهيونيّة.

الحركات التكفيريّة التي تعيث فسادًا في الأرض وتستبيح دماء الأبرياء والعزّل، عدا عن كونها تماثل النازيّة والصهيونيّة في العنصريّة، لا يقلّ خطرها عن خطرهما. غير أنّ مواجهة هذه الحركات التكفيريّة ينبغي أن تنأى بنفسها عن الطائفيّة والمذهبيّة، فأيّ تشكيل طائفيّ في مواجهة الحركات التكفيريّة إنّما يصبّ في مصلحتها.

نعم، الخروف سينتصر على الوحش.

 

مجلة النور، العدد السادس 2014، ص 282-283

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share