النبيّ هو المبشّر بكلمة اللَّه. هو، في ما يقوله من نبوءات، لا يأتي بشيء من ذاته. هو الذي يتلقّى كلامه من الوحي والإلهام، فيعلن قصد اللَّه الخلاصيّ للعالم بعامّة، وللكنيسة بخاصّة. هو، بكلمةٍ، الذي يكشف مشيئة اللَّه للمؤمنين، كي يلتزموا بها ويعملوا بموجبها. وقد عنى فعل “تنبّأ” في العهد الجديد، من بين ما عناه، التبشير والتعليم والتذكير والتعزية.
النبيّ هو، قبل كلّ كلام، إنسان يتكلّم باسم اللَّه. يرى ما لا يراه الناس، لأنّه ينظر إلى الحياة بعين اللَّه، لا بعين جسده. هو، على مثال القدّيس يوحنّا المعمدان، صوت صارخ في برّيّة هذا العالم، يصدح بالحقّ، ويحارب الأخطاء والانحرافات، ويشدّد على الأمانة للربّ، ويدافع عن المظلومين والمضطَهدين، ويدعو الشعب إلى التوبة الحقيقيّة. والأهمّ من كلّ هذه التعريفات هو أنّ النبيّ ينظر إلى المستقبل نظرة رجاء مبنيّة على مجيء الربّ المخلّص كي نحيا معه إلى الأبد في ملكوته، لا في مملكة أرضيّة من هذا العالم ستزول عاجلاً أم آجلاً.
ليست وظيفة النبيّ الأساسيّة، في العهد الجديد، الكشف عن أحداث مستقبليّة أو أخرويّة، أو التحدّث عن أمور الغيب، بل هي تتناول شؤون الناس والكنيسة في أيّامـه. فالنبيّ لا يعلن فقط ماذا ينوي اللَّه أن يفعل، بل يذكّر وينبّه وينذر بما يريده اللَّه من الناس أن يعملـوه. وإذا ما تحـدّث عن أحداث المستقبل وأهواله وحروبه ونزاعاته، فإنّما يريد من الناس أن يتوبوا ويعودوا إلى اللَّه قبل أن يدركهم الموت.
كتب القدّيس بولس الرسول متسائلاً: “ماذا أنفعكم إذا لم أكلّمكم بوحي أو بعلم أو بنبوءة أو بتعليم؟” (كورنثوس الأولى 14: 6). النبيّ، إذًا، هو الذي ينطق بأقوال لها علاقة مباشرة بوضع الكنيسة الراهن، ويوضح في الآن عينه طريقها إلى المستقبل الذي يشاؤه اللَّه لها. النبيّ، تاليًا، هو مَن يستـطيع أن يجعـل الإنجيـل وتعاليمـه قاعـدةً للإجابة عـن هـواجس النـاس وأسئـلتهـم، فيعينـهم على إيجاد حلول منسجمة مع التعليم الإلهيّ لمشاكلهم وهمومهم اليوميّة.
النبيّ، إذًا، هو الذي يحضّ المتكاسلين والمتقاعسين والمتوانين والمرهقين، ويعزّي الممتَحنين والمعذَّبين، ويشجّعهم ويثبّتهم في الإيمان: “أمّا الذي يتنبّأ، فيكلّم الناس كلام بنيان وموعظة وتعزية” (أعمال الرسل 14: 3). فعلى مثال كاتب سفر الرؤيا الذي لم يكن هاجسه، وبلا ريب، أن يلقّن قارئه علامات نهاية الأزمنة، بل أن يحضّه على الثبات في الإيمان وعدم الارتداد أمام الدولة الرومانيّة وحكّامها الذين عادوا المسيحيّين واضطهدوهم ومارسوا تجاههم أشنع التعذيبات كي ينكروا إيمانهم، وكي يقدّموا الولاء والعبادة لهم لا لإلههم. ويسعنا القول إنّ الرؤيا نصّ عظيم في مديح الشهادة والاستشهاد وعدم التخاذل مهما قست الظروف.
في العهد الجديد، أصبحت النبوءة موهبة جماعيّة تقتنيها الكنيسة مجتمعةً تحت رعاية رأسها الربّ يسوع. ويسعنا القول إنّ الروح لا يستحوذ على هذا أو ذاك فقط، بل يدعو جميع أعضاء الكنيسة إلى التنبّؤ. فلا تكون موهبة النبوءة حكرًا على بعض الأفراد، بل يمكن أن تعطى لكلّ واحد من المؤمنين على قدر استجابته لنداء الروح. هي مسألة تناغم بين المشيئة الإلهيّة والقبول البشريّ للعيش بموجب هذه المشيئة الإلهيّة. لذلك، وبسبب عدم استجابة بعضهم، نرى أنّ موهبة النبوءة تقتصر على عدد معيّن من أبناء الكنيسة.
مع مجيء الربّ يسوع تبدّلت وظيفة النبوءة، ففي العهد القديم كانت تقوم أساسًًا على التبشير بمجيء المسيح المخلّص، وقد انتهى هذا النمط من النبوءات بعد تحقّقها في تجسّد الربّ وما قام به في حياته على الأرض. أمّا في العهد الجديد، فقد استمرّت النبوءة بصورة أخرى تقوم أساسًا على التذكير، في أيّام المحنة والشدّة بخاصّة، بأولويّة الإيمان والثبات عليه لمجابهة الصعاب التي تهدّد المؤمنين جماعةً وأفرادًا.
يقول القدّيس بولس الرسول: “فمَن أوتي النبوءة، فليتنبّأ بحسب قاعدة الإيمان” (رومية 12: 6). ليست نبوءة، إذًا، تلك الأقوال والرؤى التي لا توافق القواعد الأساسيّة للإيمان المسيحيّ، لا سيّما ما يختصّ بالعقائد الأساسيّة التي يقوم عليها هذا الإيمان، الثالوث والتجسّد والصلب والقيامة، من دون أن ننسى الأركان الثلاثة “الإيمان والرجاء والمحبّة، وأعظم هذه الثلاثة هي المحبّة” (كورنثوس الأولى 13: 13). وليس نافلاً أن يتابع القدّيس بولس هذه الآية بقوله: “اتّبعوا المحبّة، واطمحوا إلى مواهب الروح، ولا سيّما النبوءة” (14: 1). لا نبوءة من دون إيمان ورجاء ومحبّة.
مجلة النور، العدد الأول 2016، ص 2-3