حلقة مع الأب مسوح – أجراس المشرق

mjoa Thursday September 26, 2013 458

 

أجراس المشرق

برنامج حواري ثقافي أسبوعي يطرح قضايا الوجود المسيحي الراهن وعبر التاريخ في الشرق العربي من زواياه الحضارية والثقافية والسياسية ويعتبر الأول من نوعه على شاشة فضائية عربية.
الأب جورج مسّوح – مدير مركز الدراسات المسيحية – الإسلامية في جامعة البلمند – لبنان
29 أيلول 2013 21:00 2266
إعداد: غسان الشامي غسان الشامي لورا موراني لورا موراني

حوار في الأنطاقية وأحوال المسيحيين في المشرق وبلاد العرب.
المحور الاول

أنطاكيا نقطة الوصل بين الشرق والغرب. قيام الفكر الأنطاكي على شراكة مسيحية إسلامية على قاعدة عربية.

المحاور: مساء الخير. يحار الناظر أين يُجيل بصره في هذا المشرق والعالم العربي. فالأمكنة ملتهبة، وشارع يأكل شارعا، وفتنة تنتظر شطب فتنة؛ وكأن أسلوب الإلغاء انتصر على ثقافة الحوار والتلاقي. من أين جاءت سوسة التكفير وقطع الرؤوس وتجييش الناس في غرائز ما قبل إلهيّة؛ غرائز جاء الدين ليلغيها ويحتمي بالشرط الإنساني وبأخلاق سماويّة. لكنها سرعان ما انفلتت وتحديدا في هذه المنطقة المتعدّدة الديانات والأعراق. في ظل هذا، ماذا يفعل صنّاع الرأي وممتهنو المعرفة وتحديدا في الكنيسة الأنطاكيّة المشرقيّة؟ وكيف يواجه الفكر الأنطاكي المشرقيّ أزمات الحضور والمستقبل؟ هذا جزء من حوار “أجراس المشرق” مع الأب الدكتور جورج مسّوح، مدير مركز الدراسات المسيحية الإسلامية في جامعة البلمند، من هنا من عاليه في جبل لبنان. قبل الحوار، صورة شخصية للأب الدكتور مسّوح:

وُلد الأب الدكتور جورج مسّوح في سد البوشريّة بجبل لبنان عام 1962. حاز على ليسانس في الرياضيات من الجامعة اللبنانية عام 1987، وليسانس وماجستير في اللاهوت الأرثوذوكسي من معهد القدّيس سرجيوس في باريس عام 1992. نال شهادة الدكتوراه في الدراسات الإسلامية من المعهد البابوي للدراسات العربية والإسلامية في روما عام 1997 عن أطروحته المواضيع المسيحية في أعمال رجال الدين المسلمين في لبنان ما بين عامَي 1975 و1996.

رُسم كاهنا عام 1997. اهتمّ بدراسة العلاقات المسيحية الإسلامية. وهو حاليّا مدير مركز الدراسات المسيحية الإسلامية في جامعة البلمند، وأستاذ الحضارات والثقافات وعلوم الأديان والدراسات الإسلامية في الجامعة.

شارك في مؤتمرات وندوات حول هذه العلاقات وعن الحوار بين الأديان.

أصدر كتاب الخيرات الآتية: نظرات في تقارب المسيحية والإسلام. وله أبحاث نُشرت في مجلات متخصصة وكتب جماعيّة. وله مقالة أسبوعية في صحيفة النهار اللبنانية.

الأب مسّوح كاهن رعيّة مدينة عاليه للروم الأرثوذوكس. وهو متزوّج من ماغي وهبه، ولهما ثلاث بنات.

المحاور: أهلا بكم في “أجراس المشرق”. أهلا بك دكتور، أهلا بك أبونا في “أجراس المشرق”.

د. مسوح: أهلا وسهلا بكم في عاليه. وأشكركم على هذه الزيارة.

المحاور: اسمح لي أن أبدأ مباشرة، وأبدأ من أنطاكية: الكثيرون يتساءلون، لا بل تَرِدني رسائل: لماذا هذا الارتباط بأنطاكية، وقد غدت خارج السياق العام الاجتماعي والديمغرافي للبطريركيات؟ ماذا تعني؟ ماذا تعني لكم؟ وهذه البطريركيات أصبحت إمّا في دمشق وإما في بيروت. ما هذا الارتباط بها؟

د. مسوح: بالحقيقة، الأسماء ترتبط برموزها وبما تحمله من معانٍ لأصحابها. اليوم القدس مثلا إذا خلت من المسيحيين لا يعني ذلك أن نتخلّى عنها أو عن كل ما قدّمته من تراث وتاريخ واسم. أنطاكية بالنسبة لنا هي مهد المسيحية في الشرق. إليها لجأ الرسل. وقد دعي المسيحيون أولا مسيحيين في أنطاكية. وهي كانت عاصمة سورية. فعندما نقول أنطاكية آنذاك مثلما نقول الآن دمشق أو بيروت عاصمة لبنان.

المحاور: كانت عاصمة سورية الأولى.

د. مسوح: طبعا، عاصمة سورية الأولى. وكان فيها هذا التنوّع والتعدّد. كان هناك السرياني واليوناني والعربي. هذه المدينة لها رموز أيضا على صعيد الانفتاح اللاهوتي على كلا الطرفين الغربي والشرقي لأنها نقطة وسط ما بين الشرق والغرب. وأيضا تحمل تاريخا وفلسفة.

المحاور: نقطة وسط أو بوابة الغرب باتجاه الشرق؟

د. مسوح: أنا لا أحب أن أقول بوابة الغرب. أقول إنها مثل المنارة الموجودة في منتصف الطريق ما بين الشرق والغرب؛ لأنها فعلا منارة. وأنطاكية أعطت للكنيسة وللمنطقة وللتاريخ وللحضارة والثقافة الكثير. حتى ضمن الوثنيين هناك ليبانوس الأنطاكي والمعلمون مثل لقيانوس وسواه. هي لم تكن فقط ذات طابع مسيحي. أعيد وأشدّد على أنه كان لها طابع سوري من هذه المنطقة، ثم تعمّدت بالمسيحية وبقيت على انفتاحها. فالانفتاح الذي نجده في أنطاكية لا نجده في الكنائس الأخرى، لا في اليونان ولا في روسيا مثلا.

المحاور: ولا في الإسكندرية مثلا؟

د. مسوح: ولا في الإسكندرية؛ لأنه في الإسكندرية بعد خلقيدونيا، في القرن الخامس وصاعدا، تشدّدت الكنيسة كثيرا.

د. مسوح: ولم تعد تقبل بوجود غير المسيحيين انطلاقا من كيريلوس الإسكندري. مشهورة قصة هيباتيّا الفيلسوفة وإلى آخره. هذا الانفتاح فعلا، حتى في تاريخ الكنيسة والخلافات الكنسيّة، كان دائما الأنطاكيون يؤدّون دور المقرّب ما بين الشرق والغرب. واللافت هو موقف بطرس الأنطاكي في القرن الحادي عشر حين حدث الانشقاق بين الكنيستين الغربية والشرقية، ما بين القسطنطينية وروما، الأنطاكي قال لهم: اصبروا، نحلّها بالحوار، ولا داعي أن نكبّر الموضوع كثيرا. فمنذ البدء الأنطاكيّون يؤدّون دور المنفتح على المسيحيين وسواهم، حتى قبل الإسلام.

المحاور: أدَّوا هذا الدور. وهذا الدور ديمغرافيّا انتهى. هل هذا الارتباط ارتباط عاطفي لأن المسيحيين سُمُّوا مسيحيين في أنطاكية؟ أو أن هناك محاولة لاستعادة هذا الدور؟

د. مسوح: طبعا نأمل أن نعود إلى الحضور في هذه البلاد. الوجود جيّد، لكن الحضور أهم. فأن يكون لنا فعلا دور، ولو كنا قلّة، القلّة هي مثل الملح الذي يعطي نكهة للطعام، هي مثل الخميرة التي تخمّر العجين.

المحاور: هناك حديث.. يتحدّث الكثيرون وأنت منهم، سيّدنا جورج خضر عن فكر أنطاكي، فكر أنطاكي مشرقي. ما هو هذا الفكر؟ كيف نشأ؟ ما هي استمراريّة هذا الفكر؟ وبالتحديد ما هي علاقته الآن بالأفكار المنتشرة حاليا؟

د. مسوح: أولا الأنطاكيون حتى في ظل الدولة البيزنطية لم يحكموا، لم يستلموا حكما. وأتت الدولة الإسلامية منذ 14 قرنا إلى انتهائها مع نهاية الحرب العالمية الأولى، أيضا لم يحكموا. وهم بقوا في هذه البلاد لأنهم دائما يسعَون إلى الشركة التامّة مع سكّان المنطقة. ولذلك هم لم يسعَوا إلى دولة مسيحية. لم يسعَوا إلى أن يستلموا حكما في هذه البلاد. قبلوا بأن يكونوا ضمن إطار الدولة الإسلامية مع حقوق وواجبات وإلى آخره. وعاشوا في ظل الدولة الإسلامية. طبعا أنا هنا لا أمدح موضوع أهل الذمّة وسواه لأننا صرنا في دولة المواطنة الآن. لكن يجب أن نعطي حقّا للقرن السابع إلى القرن التاسع عشر أو الثامن عشر، حتى في ظل نظام أهل الذمة كنا موجودين وحاضرين وفاعلين.

المحاور: ولكنك تعلم أيضا أن الظاهر بيبرص أو نور الدين زنكي أباد في أنطاكية كل مَن كان فيها.

د. مسوح: صحيح. مرّت فترات، ولا أحد يقول لا. حتى إن المسيحية اندثرت كلّيّا من شمال أفريقيا. تركيا في ظل الدولة العلمانية أيضا خلت من المسيحيين. الأرمن والسريان وإلى آخره ما حدث لهم كان في ظل “تركيا الفتاة”. ولذلك، مرّت فترات عصيبة على المسيحيين. ولكننا إذا أخذنا الخط العام وخصوصا الإسلام العربي.. أعيد وأكرّر: في ظل الإسلام العربي لم يحدث ما حدث في ظل الإسلام السلجوقي والمماليك والأتراك وإلى آخره. ومن هنا، كون هؤلاء المسيحيين ناطقين بالعربية ولديهم حضارة عربية وإلى آخره، وهم عرب في معظمهم، من جذور عربية، كانت ثمة شراكة مع المسلمين العرب استمرّت إلى اليوم.

المحاور: إذاً الفكر الأنطاكي هو شراكة إسلامية مسيحية برأيك؟

د. مسوح: نعم، شراكة مسيحية إسلامية على قاعدة عربية أو سوريّة. عندما حكم الإسلام التركي والسلجوقي والمماليك حصلت مشكلة. وعندما أتى الصليبيون من الغرب حصلت مشكلة. فلو يتركوننا وحدنا نحن العرب والسوريين، مسلمين ومسيحيين، لا تعود ثمة مشكلة.

المحاور: وبقيّة المشرق خارج سورية؟

د. مسوح: أقول عربي أو سوري. عربي، نتحدث عن مصر.. لا أتكلم فقط على سورية. وكوننا نتحدث عن أنطاكية، نقول سورية وعرب لأننا أيضا ننتمي إلى هذه العروبة الثقافية الحضارية. نتكلم العربية وساهمنا في الحضارة العربية والحضارة الإسلامية. إذاً، إن لم يلوّثنا الفكر الإسلامي الآتي من غير العرب ويتركوننا نحيا مع بعضنا البعض، فنحن نعيش إلى الأبد سويّة؛ لأننا إذا أخذنا مثالا قويّا جدّا أن المسيحيين في سورية في ظل الانتداب الفرنسي قُسّمت سورية إلى أربع مناطق: دولة للعلويين، دولة للدروز، دولة حلب، دولة دمشق. لا توجد دولة للمسيحيين. المسيحيون لا يريدون…

المحاور: المسيحيون لا مكان محددا لهم. هم على كامل الجغرافيا وليست لهم منطقة واحدة يسكنون فيها. تحوّلت المسيحية إلى مسيحية متحفيّة. تركيا هي متحف في الهواء الطلق للآثار ما قبل الحضور التركي في هذا المشرق. هل هناك فكرة لتحويل المسيحية المشرقية في ظل هذه الحركات الحاصلة إلى مسيحية متحفية؟

د. مسوح: أعتقد أن هذا ما يسعى إليه الكثيرون خصوصا العدو الإسرائيلي والأميركيون. نحن كنا موجودين إلى بداية القرن العشرين. كنا على الأقل نشكّل 15 بالمئة من سكّان المنطقة. وبين لبنان وسورية كنا أكثر من الربع. وفي لبنان كانوا تقريبا النصف. هذه الديمغرافيا اليوم انتهت. في فلسطين بقي المسيحيون في القدس وبقوا في كل فلسطين إلى أن أتى الكيان الإسرائيلي خلال الستّين سنة فقضى على وجودهم. في العراق الأمر سيّان.

المحاور: بعد الحضور الأميركي.

د. مسوح: طبعا بعد الحضور الأميركي. اليوم ما يجري في سورية وفي لبنان أو ما جرى في لبنان هو للقضاء على هذا الوجود المسيحي؛ لأنهم يريدون تحويل هذه المنطقة إلى كيانات طائفية مذهبية تتصارع دائما في ما بينها. المسيحي ليس له دور فيها. ولذلك هناك نوع من منهجية واضحة لإفراغ الشرق من المسيحيين.

المحاور: الآن هناك نوع من عملية فرز للنسيج الاجتماعي. هل السبب أفكار من هذه البلاد أو أفكار واردة عليها؟ ومن دون أن نضع الحق دائما على الغريب كما حصل في لبنان. فنحن دائما نضع الحق على الغريب. أعتقد أن الغريب هو نحن.

د. مسوح: أنا أريد أن أقول أمرا مهمّا جدا لو أعطيتني بعض الوقت إذا أردت.

المحاور: تفضّل.

د. مسوح: المسيحيون منذ القرن التاسع عشر حتى بداية العشرين أطلقوا مشاريع عديدة، كلها تقوم على قاعدة العلمانية والفصل ما بين الدين والدولة، ومنها القوميات والاشتراكية وسواها والمواطنة والمساواة وإلى آخره. وهم أرادوا أن يكونوا على سوية كاملة مع المسلمين وشراكة تامّة على كل المستويات. مع الانتداب الفرنسي ونشوء الأوطان الجديدة..

المحاور: الدولة الوطنية.

د. مسوح: الدولة الوطنية والعصرية، أعتقد أنه حتى في لبنان، هذا الكيان الذي أُسّس أيضا على شراكة طائفية إسلامية مسيحية أخفقوا في بناء دولة حقيقية؛ دولة تقوم على المواطنة، المشروع القومي العربي وغيره ومشروع الطائفية، كلاهما أخفق في بناء دولة عصرية ديمقراطية تقوم على كل هذه الأفكار التي كان يتكلم عليها المسيحيون العرب سابقا. وهذا أدى إلى فشل ذريع، ولم نستطع لا أن نحرّر فلسطين ولا نفعل شيئا ووصلنا إلى الحائط مع وصولنا إلى دكتاتوريات حكمت هنا وهناك. وفي هذا الوقت أيضا، بالتوازي، كان هناك تصاعد لإسلام سلفي معيّن بدءا بالإخوان المسلمين. لم يحدث تجديد للفكر الإسلامي الفقهي عن موضوع الدولة. هذان المشروعان كلاهما خرج عن محمد عبدو وخرج عما فكّر به المفكّرون العلمانيون المتنوّرون إلى أن وصلنا إلى حائط. فإمّا تكون سلفيّا أو جهاديّا أو وهّابيّا أو أصوليّا، أو من ناحية أخرى تدعم أنظمة أيضا لا تُقيم أي اعتبار للديمقراطية وللمواطنة وسواها.

المحاور: إذاً يقع جزء من…

د. مسوح: طبعا نحن نتحمّل جزءا من المسؤولية، ومسلمو هذه البلاد يتحمّلون جزءا من المسؤولية. وعندما يأتي النفط والمصالح الغربية أيضا.. أنا لا أتّهم فقط الغرب. أتّهم أيضا قصر النظر لدى أبناء هذه المنطقة والإخفاق، أعيد وأؤكّد، لأننا لم نستطع أن نؤسّس دولة حديثة.

المحاور: أعزائي، نتوقف مع فاصل ثم نعود لمتابعة هذا الحوار مع الأب الدكتور جورج مسّوح.

المحور الثاني

في دول قومية وقطرية : ماذا يطلب المسيحيون من المسلمين للحفاظ على الوجود المسيحي والعيش المشترك؟

المحاور: أهلا بكم مجددا في “أجراس المشرق”. دكتور مسوح، أنت مدير مركز دراسات مسيحية إسلامية في جامعة البلمند، ومطّلع على الحالة الإسلامية وعلى الحالة المسيحية أيضا وعلى الحوار وعلى المصطلحات التي تأتي يوما بعد يوم في عالمنا. هناك مَن يروّج الآن لمصطلح الإسلام السياسي أو مَن يقول بالإسلام الوسطي. وهناك إسلام تكفيري. في حُمّى هذه الاصطلاحات، أين هو الصحيح؟ وأنا أريد أن أسألك: أنت كتبت عن الإسلام الوسطي. هل يوجد إسلام وسطي، بالمناسبة؟

د. مسوح: أنا أعتقد أنه لا وجود فعليا للإسلام الوسطي في موضوع الدولة تخصيصا؛ أنا أخصّص في موضوع فقه الدولة. لا وجود لإسلام وسطي يختلف عن إسلام جهادي أو سواه. فليس هناك في الفقه الإسلامي المعاصر مَن يقول بـلا جدوى الجمع بين السلطتين الزمنيّة والدينيّة. إلى اليوم الدولة الإسلامية هي الشعار عند الكل؛ إمّا أن نصل إليها لدى الإسلام المسمى وسطيّا بالديمقراطية وبالوسائل المعهودة اللاعنفيّة، ولدى الإسلام الجهادي الدولة الإسلامية وخلافها وإلى آخره بالقوة وبالعنف وبالقتال وبالجهاد. والدليل على ذلك أنه في كثير من الأحيان تصدر لدينا وثائق: وثيقة الأزهر بشأن الدولة هي وثيقة ملغومة بكل ما للكلمة من معنى.

المحاور: ملغومة.

د. مسوح: نعم.

المحاور: أين اللغم فيها؟

د. مسوح: اللغم فيها هو أن وثيقة الأزهر تبدأ بالبداية فتقول إنها مع دولة دستورية، يُنتخب نوابها حسب الديمقراطية وإلى آخره، والنواب يشرّعون، ولكن يجب أن يشرّعوا بالتوافق مع الشريعة الإسلامية، والأخذ بعين الاعتبار بالمقاصد الكلّيّة للشريعة الإسلامية وبحسب المفهوم الإسلامي الصحيح. نأتي إلى مسألة مَن يحدّد المفهوم الإسلامي الصحيح، في البند الحادي عشر من الوثيقة تقول الوثيقة إن الأزهر هو مَن يحدّد ما هو الإسلام الصحيح. إذاً هناك نوع من رقابة دينية على مجلس النواب الذي من المفترض به أن يشرّع، فتأتي سلطة عليا دينية لتقول وتنصّب نفسها أنها هي مَن يجب أن يقول إن هذا يمرّ وذاك لا يمرّ. إذاً من هنا الدولة الإسلامية تُلبَس لباس أو تسمّي دولة مدنية أو دولة ديمقراطية أو دولة دستورية وإلى آخره، ولكنها تفرَّغ من معناها.

المحاور: الدكتور علي عبد الرازق في كتابه “الإسلام وأصول الحكم” ينفي عن الإسلام.. يقول إنه دين وليس دولة.

د. مسوح: لكن علي عبد الرازق طُرد من الأزهر.

المحاور: وبعد أن طُرد عاد وزيرا للأوقاف في مصر.

د. مسوح: عاد وزيرا للأوقاف ليس في أيام دولة إسلامية.

المحاور: جمال عبد الناصر.

د. مسوح: عاد في ظل جمال عبد الناصر. نحن بحاجة إلى فقه إسلامي جريء، إلى اجتهادات جريئة، تأخذ بعين الاعتبار هذا الواقع الجديد الذي اسمه دول وطنية، دول قومية، دول قُطرية. ولكن في لبنان يقول لك أحد الفقهاء إنه مع دولة مدنية. تقول له: نُقِرّ مشروعا للزواج المدني في هذا البلد. فيقول لك: لا. كيف دولة مدنية وليس فيها تشريع مدني للزواج؟ فنفرّغ الكلمات من معانيها، الديمقراطية تفرّغ من معانيها. الديمقراطية ليست فقط أن أضع ورقة في صندوق الاقتراع. الديمقراطية هي ثقافة كاملة للاختلاف وقبول الاختلاف وسواه.

المحاور: هذا فوضى في المصطلحات.

د. مسوح: فوضى في المصطلحات، ومنها مصطلحات الصحوة الإسلامية والإسلام السياسي والإسلام الوسطي وسواه. لذلك اليوم حتى نقول إنه ليس هناك إسلام وسطي؟ هو موجود. ولكن إذا كان موجودا فهو غير فاعل ولا يجرؤ على الوقوف في وجه الإسلام المتشدد.

المحاور: كيف يمكن الوصول إلى دولة وطنية لكل أبنائها؟

د. مسوح: طبعا نحن لدينا في بلادنا فيضان من الشعور الديني. والدين ما زال تأثيره كبيرا. إذا لم يكن لدينا مصلحون، فقهاء مصلحون كبار يجرؤون على الوقوف في وجه التشدّد والسلفيّة وإلى آخره والإسلام الجهادي، فإننا ذاهبون أكثر فأكثر إلى الحائط. نحن بحاجة فعلا… هنا نتكلم على مسؤولية المسلمين.

المحاور: سنتكلم على مسؤولية المسلمين.

د. مسوح: فقط كلمة بعد.

المحاور: تفضّل.

د. مسوح: ما أريد أن أقوله إننا بحاجة إلى هؤلاء الرجال الكبار غير الموجودين اليوم للأسف أو لا يجرؤون على الظهور.

المحاور: هل هذه الأمّة لم تعد ولّادة لكي تأتي بـكواكبي آخر مثلا؟ بـعبد الرحمن كواكبي يتكلم منذ أكثر من قرن عما تكلّم به من المساواة في المجتمع؟

د. مسوح: للأسف. حتى كل الفكر الإسلامي: محمد عبدو، جمال الدين الأفغاني مع بعض الملاحظات على بعض أقواله، إنما سعَوا بكل جدّيّة وسألوا السؤال: كيف يمكننا أن نبقى مسلمين في هذا العصر الحديث؟ وتحدّثوا عن الجوهري وغير الجوهري والفصل بينهما. وعلي عبد الرازق يُعتبر من تلاميذ محمد عبدو. إذاً أُغلق عليه. ابن رشد نُفي منذ ثمانية أو تسعة قرون. نحن بحاجة إلى أمثال هؤلاء. المؤسسة الدينية يجب أن تؤدّي دورا كبيرا خصوصا الأزهر؛ لديه مسؤولية كبرى. لا يستطيع فقط أن يستنكر حرق الكنائس. كائنا مَن كان يستنكر. ليس هذه طريقة لوقف إحراق الكنائس يا شيخ الأزهر ويا سواه. أنا لا أتّهمه. ولكن عليه أن… فهؤلاء جماعته.

المحاور: أن يُفتي بحمايتها.

د. مسوح: طبعا. أنا كتبت مقالة سمّيتها “التكفير كفر”. يجب أن يُصدر فتاوى تكفّر التكفيريين وتكفّر كل مَن يحرق بيتا للّه إن كان كنيسة أو كنيسا أو مسجدا في العالم العربي. إذاً هذا هو المطلوب.

المحاور: هنا أريد أن أسألك أيضا في هذا الموضوع، ولديّ الكثير من الأسئلة، ولكن هذا الوقت الضيّق دائما: يا سيّدي، كنا نسمع بإسلام شامي، بإسلام صوفي، إسلام الإمام الأوزاعي. وها هذه الأنواع من الإسلامات تنحسر ليأتي هذا الإسلام التكفيري ويأخذ بيده كل ما يحصل أو أغلب ما يحصل الآن في العالم العربي.

د. مسوح: صحيح.

المحاور: كيف انحسر هذا الإسلام الذي بقي نحو 12 أو 13 قرنا موجودا في هذه المنطقة في العالم؟ وعلى مَن تقع المسؤولية؟

د. مسوح: أريد أن أقول إنه أيضا يجب أن نميّز.. إذا أخذنا مثلا الإسلام الشامي الذي هو في الحياة العامّة والحياة اليومية بين المواطنين كانت ثمة ألفة ومحبة وأسواق مشتركة وزيارات وإلى آخره.

المحاور: وتبادل طعام.

د. مسوح: وتبادل طعام وتهاني بالأعياد حتى، والجنازات. آخر مرة في مصر رفض بعض النواب من الإخوان المسلمين الوقوف دقيقة صمت على روح الأنبا شنودا. النبي وقف عندما مرّت جنازة يهودي، وقال: هذا إنسان، هذه نفس. إذاً هذا الإسلام الشامي هو إسلام نبع من الحياة وأثّر على الفقه. اليوم بعدما تحوّل الفقهاء إلى فقهاء للسلاطين، ومن ناحية ثانية صارت لدينا سلفيّة وجهاديون، ولا نريد أن نقول مَن أوّل مَن أخرج الجهاديين من القمقم. دائما يقولون الغرب. وبأي مال؛ لأنك يجب أن ترى من أين المال يأتي. إذاً من هنا، مات الإسلام الفقهي الوسطي.

المحاور: أو التنويري؟

د. مسوح: التنويري والوسطي، ما يسمى وسطيّا، واليوم قوى الإسلام السلفي.. لأن الفقهاء أيضا قبلا فقدوا صدقيّتهم لدى الناس؛ باتوا تحت خدمة السلطان كائنا مَن كان، تحت أيّة تسمية. فعندما يُطلب من شيخ الأزهر عام 1977 أو 1978 أن يفتي بأن كامب دايفد يوافق الإسلام، ويقوم مفتي السعودية لأن السعودية يومها لم يكن من صالحها أن تكون مع كامب دايفد يقول ضد. فأي فقيه…؟ وهما مرجعيتان كبريان.

المحاور: عن أي فقيه نأخذ؟

د. مسوح: وبالتالي عندما يصبح الفقيه في خدمة السلطان وإصدار فتاوى باسمه كما يرغب، تفقد المؤسسة صدقيتها. ولذلك، أوّلا يجب أن تعود الحرية إلى هؤلاء؛ يُعطَون حرية. لكن هذا يحتاج إلى وقت.

المحاور: أنا أريد أن أسألك: أليست الكنيسة تحت السلطان؟ بوقت قليل، المسيحيون متّهَمون بأنهم مع النظام، أي نظام كان في هذه المنطقة من العالم.

د. مسوح: صحيح. ما ينطبق على المؤسسات الإسلامية ينطبق على المؤسسات المسيحية. ليس ثمة فرق؛ بمعنى أنهم يخضعون أحيانا للأنظمة الموجودة، يبرّرون أفعالها. في أحيان كثيرة تلعب السياسة في كيفية اختيار فلان أو فلان لمنصب ديني معيّن. هذا موجود منذ الأساس. ولكن المسيحيين ومهما كانوا مع الدولة فهم لا يؤثّرون بقدر ما تؤثّر المؤسسات الإسلامية؛ لأن المسيحيين أيضا غالبيتهم لا تصغي إلى المؤسسة الكنسية لأنهم علمانيون أو لديهم توجّهات حزبية علمانية.

المحاور: أو مدنية.

د. مسوح: أو مدنية. أمّا غالبية المسلمين بالاتجاه الآخر. حين تكون ثمة مشكلة، الغالبية تكون مسؤولة أكثر من الأقلّيّة. أتكلم عدديا. أنا لا أتكلم على الذهنية الأقلّويّة. العددية هي التي يجب أن تُطَمْئن الأقلية وليس العكس.

المحاور: ستسمح لي بفاصل؟

د. مسوح: تفضّل.

المحاور: أعزائي، نتوقف مع فاصل، ثم نعود لمتابعة هذا الحوار مع الأب الدكتور جورج مسوح.

المحور الثالث

في ظل عالم تحكمه المادة.كيف يمكن إستعادة القيم الأخلاقية في مجتمعاتنا؟

المحور الثالث

المحاور: أهلا بكم من جديد في “أجراس المشرق”. دكتور مسوح، يمكن أن يكون سؤالي فجّا. نحن نعيش في زمن انقلبت فيه القيم وتعدّدت أصناف الآثام. المال هو السلطان، القوة هي السلطان. المسيح قال: لا تعبدوا ربّين: الله والمال. لكنه يفعل كل شيء: الرشوة، الكبرياء، الكبرياء بمعنى التكبّر، الفساد، الخبث، الحسد، الجهل. قيم باتت تنتشر في مجتمعاتنا المشرقية بشكل مرعب. هل حقّق الشيطان مفهوميّاً، بالتعبير المفهومي، انتصاره على الله جلّ جلاله؟

د. مسوح: أريد أن أعود لأقول إنه دائما الأبرار والصدّيقيون والصالحون كانوا أقلية في المجتمع، أو الذين يبرزون. فثمة أناس مجهولون لا نستطيع أن نراهم. ولكن على المستوى السياسي والاجتماعي، طبعا الشيطان الذي يقول عنه المسيح إنه رئيس هذا العالم، هو الذي يسيطر على هذا الكوزموس هنا. طبعا اليوم الشيطان يحكم العالم بالمعنى السياسي للكلمة.

المحاور: طبعا أنا لم أتكلم بالمفهوم الإيماني.

د. مسوح: لا طبعا طبعا.

المحاور: لكي يتوضّح للإخوة المشاهدين.

د. مسوح: فالموضوع إذاً اليوم أن المال والسلطة وكل هذا هو أثمن بكثير من دم طفل أو دم امرأة أو رجل بريء أو عجوز. فما نراه لم يمرّ عبر التاريخ مثله؛ لأنه برأيي أن يرتكب إنسان جريمة تُعتبر جريمة واحدة. بينما أن يرتكب إنسان جريمة باسم الله فإنها تصبح جريمتين لأنه يرتكب جريمة وباسم الله يقول، فتصبح خطيئته خطيئتين وجريمته جريمتين وإثمه إثمين. فبالتالي، في بلادنا منذ فترة قتلوا ولدين، وضعوهما ورشّوهما. أليس لديهم أولاد؟ أليس لديهم إخوة؟ فهنا انفلات هذا العقال، الحقد، الكره، البغض، رهيب. أنت لديك مشكلة مع نظام، مع رئيس نظام، لكن ما ذنب الأطفال؟ ما ذنب حتى الجيش الذي هو ابن هذا البلد، وسواه؟

المحاور: هذا بالمعيار الأخلاقي القِيَمي.

د. مسوح: ثم مَن يريد أن يقوم بثورة، إذا كان ثورويّا من دون أخلاق فهو ليس ثورويّا. الثورة باللغة الأجنبية revolution أي تتقدّم إلى الأمام. هي ازدهار، هي تطوّر، وليست تخلّفا وعودة إلى الوراء وعدم أخلاق وإلى آخره.

المحاور: كيف يمكن استعادة قيم الأخلاق في هذا العالم المحكوم بهذا الكم الهائل من المادّة؟ كيف يمكن استعادة غايات الدين؟ كيف يمكن استعادة المحبة والتسامح؟ حتى إنه من المعيب أن نقول كما نقول دائما: سقى الله أياما مضت. دائما نقول إن الأيام الماضية كانت أفضل وإن المستقبل يمكن أن يكون أسوأ. كيف يمكن استعادتها؟ وأنتم رجال الدين ومؤسسات دينية لديكم حضور واضح وسطوة واضحة في المجتمع.

د. مسوح: أنا رجل دين بمعنى خاص.

المحاور: نعم. ولكن ضمن مؤسسة دينية.

د. مسوح: طبعا طبعا. هناك عمل على المؤسسات الدينية. أنا أعتقد أن الحل قاله فرح أنطون منذ 150 سنة تقريبا حين تحدّث عن الفصل بين السلطتين الزمنية والدينية. يعطي سببا، يقول: يجب أن تُبعدوا الدين عن أوحال السياسة؛ لأن السياسة نفاق ورياء وكذب. الدين يجب أن يُنزَّه عن وحول السياسة. وبالتالي رجال الدين حين يعملون في السياسة يتخلَّون عن مبادئهم الدينية.

المحاور: وفي الوقت نفسه، إذا تركوا الناس ضمن وحول السياسة، ماذا يحصل؟

د. مسوح: لا، لكن الدور الذي يقومون به هو الفصل بين الدين والسياسة وإعطاء أخلاق للسياسة لأن اللاهوت أو علم الكلام يجب أن يعطي شيئا في كل شيء، يعطي فكرا، إن كان في السياسة أو في الاجتماع وفي كل شيء. ولذلك يجب العمل على فكر سياسي يفصل بين الدين والدولة. وهنا ننزّه الدين عن السياسة، ولكن ليس معنى ذلك أن يصمت رجال الدين. رجال الدين أولا يجب أن يكونوا أخلاقيين. فليس أي رجل دين يكون حاملا أخلاقا. لا تؤاخذني. ولذلك هناك رجال دين يجب أن يُعطوا أخلاقيات جديدة. وهذا يتطلّب اجتهادا لدى الكل؛ لأن لدينا أيضا نحن المسيحيين ردة سلفيّة معيّنة. هناك خوف، هناك تقوقع. هذا التقوقع يكاد يقضي علينا أيضا نحن المسيحيين. من هنا، ما يصيب المسلمين يصيبنا، وما يصيب الفكر الإسلامي يصيب الفكر المسيحي. يُعدَون من بعضهما البعض. ولذلك يجب الفصل ما بين السلطتين من أجل أن يستطيع الدين أن يكون ضمير السياسيين، يوبّخ السياسيين، وليس أن يعمل في السياسة. إذا عملوا في السياسة، فمَن سيوبّخهم؟

المحاور: على الدين أن يعمل معارضة.

د. مسوح: نعم. على الدين أن يعمل معارضة أخلاقية، ضميرية، فكرية، نعم. أو مثقّفة بمعنى أن المثقف هو الذي يشير دائما إلى مواقع الخلل، أين يوجد أيضا هدر لكرامة الإنسان وسواه. من هنا، الدين، هذا هو دوره.

المحاور: في ظل هذا الانحلال الخطير، أي بمعنى التحوّل من عبادة الله إلى الخضوع لسطوة بشر يفسّرون النص حسبما يرون. وربما مَن يفسّرون لا يعرفون من العلم شيئا.

د. مسوح: بالتأكيد.

المحاور: وأنت تتكلم على فصل الدين عن السياسة. هذه المجتمعات التي يتداخل فيها الدين في السياسة، إلى أين تذهب؟

د. مسوح: هي ذاهبة إلى مزيد من صراعات ومزيد من الجهل. كان قديما.. ومحمد عبدو أيضا قالها، إن الأتراك استعملوا بعض الفقهاء في بلاطهم لتعميم الجهل لكي يبقوا مسيطرين به على الناس. يخافون من الفكر، يخافون من الذكاء، يخافون من الاجتهاد. ولذلك طالما ليس لدينا أناس فقهاء يرتفعون إلى مستوى أن يجدّدوا بالفكر ويوعّوا الناس.. فالعمل توعية. ليس الحل غدا. ولكن الحل بعد عشر سنوات أو عشرين سنة يجب أن نبدأ من اليوم في موضوع الوعي والتدليل على أن استخدام الدين اليوم هو لصالح السياسة. لو تُستخدم السياسة لصالح الدين فليست ثمة مشكلة. ولكن العكس هو ما يحصل: يُستعمل الدين لصالح السياسة ولصالح الفتنة ولصالح التقاتل. ولذلك يجب إنقاذ الدين من أيدي هؤلاء.

المحاور: أيضا السياسة هي مصطلح، هي فن حكم. وأي مجتمع يحتاج إلى حكم. فلا نستطيع أن نترك المجتمعات تعيش هكذا كما تريد. ولكن في ظل هذا، وأنت تتكلم على مستقبل يمكن أن يكون قاتما، برأيك، وعذرا على سؤالي، هل تحتاج هذه المجتمعات إلى أنبياء جدد حتى تسير؟ أو إلى ساسة جدد؟ أو الاثنين معا؟

د. مسوح: أنا أعتقد أننا إذا أخذنا مفهوم النبي بالمسيحية، فهو الذي يُعلن مشيئة الله. هو إنسان عادي يُعلن مشيئة الله ويوبّخ الناس على خطاياهم، ثم يعود فيصوّب مسيرة الكنيسة. بهذا المعنى، نعم. نحن بحاجة إلى أناس شجعان يقولون أين الخطأ. بهذا المعنى، نعم. نحن بحاجة إلى صوت نَبَويّ، إذا لم نقُل إلى أنبياء.

المحاور: إلى رسوليين.

د. مسوح: نعم، إلى رسوليين. ومن ناحية أخرى، طبعا نحن بحاجة إلى سياسيين نظفاء. ولكن هذا أصعب. نحن نستطيع أن نطلب. من أيام ميكيافيللي وسواه، السياسة مسموح أن فيها الرياء والنفاق والكذب وإلى آخره. ولكننا بحاجة إلى رجال دين يقولون الكلام حيث يجب ويصوّبون مجددا مسيرة الناس والدولة وإلى آخره. ممنوع أن يسكتوا. كثير من الناس يسكتون اليوم. ممنوع.

المحاور: وهؤلاء شيطان أخرس، الساكت؟

د. مسوح: أخرس، أو أنهم خائفون على أنفسهم أو أن يجري لهم شيء. وأنا يمكن أن أفهم الوضع هذا. ولكن، في الوقت ذاته، صمتنا اليوم “فسنأكلها” لاحقا. فالصامت وغير الصامت يتلقّى صفعة. فالأفضل للمرء أن يتكلم فيكون قال ما يجب أن يقوله قبل أن يذهب.

المحاور: في ظل هذا الفرز المذهبي الذي تشهده المنطقة المشرقية، وهذه المنطقة المتنوّعة، ما الذي يمكن أن يحصل برأيك؟

د. مسوح: إذا أردنا أن نتحدث عن الأمنيات، نتمنى لكل هذا ألّا يحصل. أمّا إذا كنا نريد أن نتحدث بالوقائع…

المحاور: الحقائق، ولنقُل للناس الحقائق.

د. مسوح: ما يجري اليوم يشير إلى مزيد من التشرذم، وربما إلى إعادة ترسيم حدود وكيانات جديدة طائفية مذهبية. وهذا برأيي قد يؤدي إلى زوال أو إلى نقص أكثر فأكثر في أعداد المسيحيين لأنهم منتشرون في كل المناطق “وسيأكلونها” أينما كان. فلذلك، نحن اليوم.. المشكلة أنه ليس لدينا أي بصيص ضوء لكي نجد فيه حلّاً على المستوى السياسي.

المحاور: إلى هذا الحد الوضع قاتم؟

د. مسوح: طبعا. ما نراه فعلا، وانتقاله من سورية إلى لبنان إلى العراق إلى مصر اليوم وسواها، واليوم يحدّثوننا عن سيناء أن انتظِروا منها العجائب والغرائب. وأعيد وأؤكّد أن كل إنسان حريص على هذه البلاد سيعود ويذكّر به وهو أننا ننسى أن إسرائيل هي أصل البلاء، وأنه لولاها لكنّا بألف خير، ولولا وجودها لكان المسيحيون والمسلمون يعيشون بنعيم دائم.

المحاور: ولما كنّا رأينا هذا التشدّد الحاصل؟

د. مسوح: أبدا. أنا أعتقد أنه لما كنا وصلنا إلى هنا.

المحاور: بدقيقة، هل هناك مقوّمات لأن تحكم تيارات متشدّدة هذه البلاد المتنوّعة الموزاييكيّة؟

د. مسوح: أعتقد لا. لا أعتقد أنهم يستطيعون الحكم لأن الأكثر منهم انفتاحا، الإخوان المسلمين مع القفازات المخملية وإلى آخره، لم يستطيعوا أن يحكموا. هؤلاء فقط مشروع قتل مستمر. إذا استمرت قوّتهم فلن يصلوا إلى الحكم. وحين يصلون إلى الحكم أيضا سيستمر القتل. وبالتالي هؤلاء ليسوا مشروع حكم، ليسوا مشروع ثورة أبدا. هم مشروع إجرامي للذبح والقتل فقط.

المحاور: إذاً هناك أمل بدولة وطنية؟

د. مسوح: نعم. أنا لي الرجاء الكامل بذلك. وهذا يتطلب منا العمل على الوعي وعلى إعادة مفهوم النهضة إلى أصوله وجذوره؛ لأننا كلنا سكان هذه البلاد وكلنا تهمّنا وكلنا ننتمي إليها. وبالتالي، ما يضرّ جاري يضرّني وما يضر أخي يضرني. ورجائي الذي لا يتعدّى الصلاة اليوم مع التعليم والكتابة أن يفعل كُلٌّ دورَه في المجتمع كما يشاء أو كما معطى له من مواهب. ولذلك حتى نعود إلى هذه البلاد ونكون في هذه البلاد ونعود إلى صفائها وجمال العيش فيها. ولكنني أعتقد أن ما قد يسرّع العودة إلى الدولة الوطنية هو القضاء على المشروع الإسرائيلي.

المحاور: أشكرك جدا.

د. مسوح: الله يخلّيك. شكرا.

المحاور: أعزائي، لطالما تساءلنا: كيف يمكن الخلاص من هذا الظلام المعرفي الذي يشبه عتمة القرون الوسطى؟ ملاحظة: أهل تلك القرون بمحاكم تفتيشهم وتقتيل علمائهم وجعل الأنهر تفيض دماً خرجوا إلى نور العلم وأكملوا حسّ احترام الحياة، فيما نحن نقتتل على الماضي السحيق: نذبح، نمتشق السيف ونتوسّل الرماح مدّعين احتكارا حصريّا للحق وحتى للألوهة. متى يصبح الدين تشريفا للإنسانية، لا وسيلة لشطبها؟ إنها مسألة على رجال الدين مثل أبونا جورج والعلمانيين معا تنكّبها.

أجراس المشرق تشكر الأب الدكتور جورج مسّوح، مدير مركز الدراسات المسيحية الإسلامية في جامعة البلمند على استقبالنا هنا في كنيسته في عاليه وعلى أجوبته.

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share