أورشليم الجديدة

نجيب كوتيَا Monday May 21, 2018 5660

“مَن تنهّد : “أما لهذا الليل من آخر؟ ” يتنهّد من أجل الجميع . من التمس في الظلمة نوراً يلتمسه لنفسه وللآخرين . من تطهّر في سبيل القدس يتطهّر ليخدم معذبيّ الأرض . هذا نسك أعماق يمدّنا إلى كلّ أفق . الرّوح المَقدسيّة النضال الكونيّ مداها . عندما تبلغ قضيّة هذه الكثافة من السطوع تمسي في حجم العالم .” (القدس – المطران جورج خضر)
في هذ الأيّام الحالكة التي يعيشها العالم بشكل عام والشعب الفلسطينيّ بشكل خاص لا بدّ لنا من التوقّف عند بعض المغالطات التي قد يقع فيها الشباب المسيحيّ في العالم العربي وقد تتسرّب إليهم غالبأ عن جهل .

أسرد هذه الوقائع ليس للأمانة التاريخيّة – الدينيّة، ولكن لكيّ نقوم بأقلّ ما يملي علينا انتماؤنا الأنطاكيّ. فالحركة والمجامع الأنطاكيّة دعمت قضيّة فلسطين منذ بدء النّكبة وحتى يومنا الحاليّ.

النكبة هي حالةُ مستمرّة

بمناسبة ذكرى مرور سبعين سنة على بداية النكبة وفي محاضرة له في كلّيّة الدراسات الشرقية في جامعة لندن شرح الروائيّ اللبنانيّ إلياس خوري أنّ النكبة ليست صراعًا حدث في نقطة معيّنة في الماضي وانتهى بخسارة العرب وبتشكيل الكيان الصهيونيّ. النكبة مستمرّة حتى يومنا هذا. والتطهير العِرقيّ يمارَس بحقّ الفلسطينيين يوميّاً. فلا يُحرمون من أرضهم فحسب، بل يحاول الكيان الصهيونيّ أن يسلب الذاكرة الفلسطينيّة فيُمعن في تحوير التّاريخ وسرقة الموسيقى وحتى تقديم الطبخ الفلسطينيّ العربيّ العريق على أنّه طبخٌ اسرائيليّ. ويتمتّع مواطن الكيان بكامل الطبابة والحرّية بينما يقبع فلسطينيّو الأراضي المحتلّة في سجون مفتوحة تُذكّر بغيتو وارسو الذي حَشَر فيه النازيّون يهود البولونييّن خلال الحرب العالميّة الثانيّة تمهيداً لإبادتهم في محارق ألمانيا.

النكبة هي أقدم من تاريخ النكبة!

من يقرأ كتاب “اوريانتليسم” للكاتب الرّاحل إدوارد سعيد يفهم أنّ الأدب والفنّ الأوروبيّ الرومانسيّ مهّد لاستعمار العالم العربيّ. فالشِّعر والأغاني والرسم كوّنوا صورةً للعالم العربيّ على أنّه الارض الساحرة الجذّابة الخام التي تنتظر الغرب ليقتحمها ويقطف ثمارها ويلقّحها من ثقافته. هذه الصورة خدّرت ضمائر المحتلّين. فاعتبروا أنفسهم يخدمون من احتلّوهم إذ يلقّحوهم بالحضارة ويخرجوهم من حال العذريّة البدائيّ الذي يعيشونه.  فالغرب الاستعماريّ هو من مهّد لولادة وعد بلفوروالذي بموجبه  وعد المستعمرون البريطانيّون الذين لا يملكون الأرض بانتزاعها من أصحابها ووهبها لأناسٍ غير ساكنين فيها أصلاً. ويذكّرني هذا الوعد المضحك المبكي بمونولوغ للكوميدي البريطانيّ إدي ايزارد يصف فيه بشكل كاريكاتوريّ أن احتلال الهند من قبل البريطانيين كان بسبب عدم امتلاك الهنود لعلَمٍ يثبتون فيه انّهم سكّان الأرض!

الصهيونيّة والعذر الديني

وعد بلفور قام به صهاينة “مسيحيّون” في بريطانيا على أساس انّ أورشليم الجغرافيّة هي مكان اجتماع الحقّ ومركز التحضير للمجيء الثاني. المذهل أنّ الصهاينة اليهود الذين أسّسوا الكيان في اسرائيل كانوا ملحدين وغير متدينين. ولكنّهم تمسّكوا بالعذر الدينيّ لتأليب المشاعر وما يزالون حتى الآن، بحيث يجعلون الغالبيّة “المسيحيّة” الأميركيّة شريكة دائمة في المشروع الصهيونيّ. فيغضّ المسيحيّ ال”مؤمن” عن المآسي التي تحصل فهيّ ضررٌ جانبيّ لا بدّ من تحمّله فداءً لتحضير المجيء الثاني وإحلال العدل! البؤس والتشريد والجوع إنّما هي تضحيات لا بدّ منها!  أمّا المسيحيّ الحقيقيّ فعليه أن يفهم أنّ اسرائيل الجديدة هي تحقيقٌ للملكوت (الآن وهنا) وليس مكانًا جغرافيًّا أو زمنًا أخرويًّا. وللأسف يعبّر الكثير من التيارات الفكرية الدينية عن أنّ ما نراه هو مخاضٌ لا بدّ منه. فيعتقد من يصدّق هذا الكلام أنّ الشرّ الذي يحدث هو تحقيق نبؤات ويُهمل أبسط ما يمليه عليه الإنجيل من الوقوف مع المظلوم ضدّ الظالم، فيساعد من حيث لا يدري القضيّة الصهيونيّة . ولا بدّ لنا من أن نلبس نظّارات المسيح المخلّصة للعالم قبل أن نسبر صفحات العهد القديم الذي هو تحضيرٌ لآدم الجديد ليس أكثر، بدلاً من محاولة مطابقةٍ حرفيّةٍ لآيات الكتاب مع أحداث الواقع.

أورشليم مكان العبادة

لا يمكننا إلّا نقف ونتأمّل بعمق في حديث المسيح مع السامريّة فهذا الحديث هو عابرٌ للجسور. جسور الديانات والجسور الجغرافيّة والزمنيّة والنفسيّة.
“قَالَ لَهَا يَسُوعُ: «يَا امْرَأَةُ، صَدِّقِينِي أَنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ، لاَ فِي هذَا الْجَبَلِ، وَلاَ فِي أُورُشَلِيمَ تَسْجُدُونَ لِلآبِ.” (يوحنا3 : 22)
يسوع هنا حرّرنا من التزام مكان جغرافيّ معيّن ودعانا لترك التعلّق بالحجر وعبادة الربّ بالحقّ والروح. عندما وقّع السادات معاهدة سلامٍ مع الكيان الصهيونيّ قام المثلّث الرحمات البطريرك شنودة بتحريم زيارة الأقباط للقدس. وصبّ السادات غضبه على البطريرك من أجل هذا القرار. المسيح ساعدنا على التحرّر من روابط المكان فالخلاص يطال الكون كلّه ومن واجباتنا تحقيقه.

أورشليم مكان تحرير المساكين

أدهشني مرةً في كنيسة أنغليكانيّة أنّ زميلأ هندوسيّاً لي كان جالساً بقربي يرتّل من القلب نشيد “جيروساليم”  وهو مقتطفات من قصيدة “ميلتون” للشاعر الإنكليزيّ الكبير وليام بلايك ( (1757 – 1827.

ومن كلمات النشيد:
“…

هل بُنيت أورشليم بين المطاحن الشيطانيّة؟

لن ينام سيفي في يدي
قبل أن نبني أورشليم
في أراضي إنكلترا الخضراء الجميلة ”

و”المطاحن الشيطانيّة” هي اعتراض بلايك على البؤس والعبوديّة اللذين عاشهما شعب الثورة الصناعيّة في بريطانيا.

فَهِم بلايك وزميلي الهنديّ وملحّنوا النشيد في الكنيسة الأنغليكانيّة ما لم يفهمه صهاينة البريطانيين وهو أنّ تحقيق الملكوت لا يتمّ في مكان جغرافيّ معيّن بل يتمّ بعتق الناس من عبوديّة الظلم والشقاء.

فلسطين ليست نكبةً في الماضي وطويت صفحتُها. إنّها جرحُ يسوعَ النّازف أبداً. نراه في إخوة يسوع هؤلاء الصغار الذين يُقتلون كلّ يوم.

رجائي أن لا نُهمل نصرتهم.

نجيب كوتيَا

431 Shares
431 Shares
Tweet
Share431