أصدر القاضي فوزي خميس، قاضي الأحداث في بيروت، حكمًا بتاريخ 24 تشرين الأوّل 2007، وبناءً على قانون حماية الأحداث بإيقاف قرار المحكمة الشرعيّة بانتقال فتاة في التاسعة من عمرها من حضانة أمّها إلى أبيها، بعدما تبيّن أنّ هذا الانتقال السريع والمفاجئ يشكّل خطرًا على حياتها النفسيّة والجسديّة على حدّ سواء. وقد أثار هذا القرار لدى المراجع الدينيّة ردود فعل متفاوتة وتساؤلات حول تضارب الصلاحيّات بين المحاكم الدينيّة والمحاكم المدنيّة.
لن ندخل في حيثيّات القرار القضائيّ أو في دراسته من وجهة نظر قانونيّة، مع تأكيدنا على أهمّيّته القصوى من حيث إنّه سيفتح الباب واسعًا أمام توسيع الاجتهاد وتجديده. ما يهمّنا في هذا السياق هو أنّ المجتمع الإنسانيّ أو المدنيّ أو الأهليّ، كما يشاء القارئ أن يقرأ، يسبق دائمًا المرجعيّات الدينيّة في إقرار حقوق الإنسان وتبنّيها. فتلك المرجعيّات تستدرك الأمور بعد أن يتجاوزها الزمن والعصر فتلحق به متبنّية وقائلة إنّ الأديان في أصولها العميقة تنادي بقيم وفضائل كانت إلى زمن ليس ببعيد تحاربها على أساس أنّها بدعة أو انحراف عن التراث أو ما شابه ذلك من علل مزعومة.
والشواهد على ذلك كثيرة. فبعد أن رفض الاتّجاه المتديّن حقوق الإنسان بذريعة أنّ ذلك يتناقض مع حقوق الله، فجأة صارت جذور حقوق الإنسان ضاربة في عمق النصوص الدينيّة والتراث الدينيّ، وبات الإجماع على القول إنّ حقوق الإنسان لم تظهر إلاّ في تاريخ المتديّنين، وهكذا تتمّ إعادة كتابة التاريخ والتفسير على ضوء ما استجدّ. ويتغافل المنظّرون الدينيّون عن تذكّر الصراع الدائم، مثلاً، بين مفكّري عصر النهضة الأوروبيّة، آباء الفكر الغربيّ المعاصر، ورجالات الكنيسة الذين كانوا يعتقدون بخطورة الأفكار التنويريّة على الإيمان. فلا نلبث أن نقرأ لاحقًا أنّ الكنيسة كانت وراء المطالبة بسيادة تلك الحقوق التي كانت تساهم في ضلالة المؤمنين.
لا يمكن المرجعيّات الدينيّة أن تبقى متخلّفة عن ركب الحضارة المعاصرة. فكما أنّها لم لم يكن بوسعها إيقاف عجلة الأفكار التي فرضت ذاتها في القرن التاسع عشر في ذروة عصر الأنوار وإقرار حقوق الإنسان والمواطنة وتحرير المرأة والجماعات الدينيّة المخالفة للدين السائد، هكذا لن تستطيع مرجعيّات اليوم إيقاف الحركة الدائمة المطالبة بتحرير بعض النصوص الفقهيّة أو الشرعيّة أو الناموسيّة من الجمود. فالظروف تغيّرت، بدءًا من الأمر الأكثر بساطة وهو أنّ المرأة قد خرجت إلى العمل وباتت مملكتها أرحب من أن تكون منزلها فقط.
ليس ما نقوله هنا قولاً جديدًا. فكبار العلماء، من الشيخ محمّد عبده إلى أيّامنا هذه، يتحدّثون عن ضرورة تحديث بعض القوانين، لا سيّما منها تلك المتعلّقة بالحياة المعاصرة. ولدى كلّ الأديان الآليّات المعتمدة الكافية من أجل اجتهاد يجيب على أسئلة يطرحها المؤمنون، واجتهاد يواجه التحدّيات الكبرى والمتغيّرة من يوم إلى يوم، والتحدّيات ليست كلّها بالضرورة سلبيّة. وبالإضافة إلى الآليّات والأصول، لا تخلو الأديان من ذوي العلم والمعرفة ممّن يعوّل عليهم كثيرًا في البحث عن الأجوبة.
إن لم تستجب المرجعيّات الدينيّة لإصلاح الفقه الدينيّ في المسائل التي يمكن الإصلاح فيها، فليس لنا ملاذ سوى القضاء المدنيّ لإحقاق حقّ المظلومين. ومَن قال إنّ الله لا ينطق أيضًا خارج المؤسّسة الدينيّة؟
جريدة “النهار” 25 تشرين الثاني 2007