قرأنا في صحيفة “النهار” (8 شباط 2008) خبرين نُشرا في الصفحة الأخيرة، اللافت فيهما أنّهما حدثا في بلدين ينهجان تنفيذ الشريعة الإسلاميّة كأساس للحكم. الخبر الأوّل يتحدّث عن “حكم بالإعدام في إيران على شابّ (عمره 22 عامًا) لاحتسائه الخمر”. أمّا الخبر الثاني فيتحدّث عن “سجن سيّدة أعمال سعوديّة ساعات بعد ضبطها تحتسي القهوة مع زميل لها”، ويشير الخبر ذاته إلى أنّ “النساء في السعوديّة لا يُسمح لهنّ بقيادة السيّارة، أو الخروج من منازلهنّ من دون تغطية أجسادهنّ من الرأس حتّى القدمين، أو السفر من دون إذن أزواجهنّ، أو الأكل في المطاعم بمفردهنّ”. وحال المرأة في إيران ليس أفضل من ذلك.
تتساوى الأنظمة الدينيّة، مهما اختلفت أو تباينت تسمياتها، في الانتقاص من الحرّيّة البشريّة باسم الشريعة الإلهيّة. ومع ذلك، لا ينفكّ القائمون على الأديان والمذاهب يتباهون بكون نصّهم التأسيسيّ وتراثهم العريق يسمحان بالحرّيّة ويضمنانها في المجتمع والدولة القائمين على الدين. فيسارعون إلى استجداء الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة التي تؤكّد على هذه الحرّيّة البشريّة، كي يستعملوها في خطابهم اليوميّ. لكن تأتي الممارسة معاكسة كلّيًّا لما تتضمّنه تلك الآيات والأحاديث المنتقاة بعناية فائقة. انظروا أفعالهم ولا تسمعوا أقوالهم، قول يناسب واقع الحال هذا أكثر من أيّ قول آخر، بينما المطلوب أن تنسجم الأقوال والأفعال.
الهوّة بين النظريّ والواقعيّ سحيقة، وضفّتاها تزدادان ابتعادًا. ويأتي حقّ الجماعة المتلبّس لباس الحقّ الإلهيّ ليقضي على الحرّيّة الفرديّة. فقول “لا إكراه في الدين” يصبح إكراهًا في الدين تحت ستار الحفاظ على الجماعة وتماسكها من خطر الارتداد الفرديّ وانتشاره، وخوفًا من العدوى التي يمكن أن تصيب شريحة واسعة من المجتمع. المساواة بين الرجل والمرأة التي تقرّها الكثير من الآيات والأحاديث يتوقّف العمل بها خوفًا من “نشوز المرأة”، وكأنّ الرجل، بطل الفحولة، يبقى في منأى عن النشوز. هكذا يصبح الدين عاملاً لاستمرار هيمنة الرجل ووصايته على المرأة.
استغلال العامل الدينيّ في تبرير قمع الأفراد وحرّيّاتهم يصل إلى حدّ تبنّي مفاهيم معاصرة كشرعة حقوق الإنسان بعد تفريغها من بعض مضامينها. فبعض الدول الإسلاميّة لم تتبنّ هذه الشرعة لاحتوائها على بنود تدعو لحريّة الاعتقاد وللمساواة بين الجنسين ولحرّيّة إنشاء نقابات عمّاليّة. مع ذلك، زعمت تلك الدول أنّها وضعت ما سمّته بشرعة حقوق الإنسان في الإسلام بعد أن أزالت ما اعتبرته يتناقض مع أصول دينها.
وفي سياق آخر، يدعو بعض الإسلاميّين، ولا سيّما في الدول التي تتكوّن من جماعات إسلاميّة ومسيحيّة، إلى اعتماد الدولة المدنيّة كصيغة مثلى تجمعهم مع شركائهم في الوطن. لكن عند أوّل اختبار لصحّة كلامهم تسقط كلّ مفاهيم هذه الدولة المدنيّة وتفرغ من معانيها. ففي لبنان، تضافرت القيادات الدينيّة، المسيحيّة والإسلاميّة على السواء، للوقوف ضدّ مشروع الزواج المدنيّ الاختياريّ الذي طُرح عام 1998 على بساط البحث. فكيف يمكن بناء دولة مدنيّة من دون قانون مدنيّ اختياريّ للأحوال الشخصيّة؟ لا جواب سوى الهروب.
ما يعنينا، نحن اللبنانيّين، من إثارة هذه المواضيع هو هذا النزاع القائم في بلادنا حول مآثر الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران من جهة، والمملكة العربيّة السعوديّة من جهة أخرى. ثمّة مَن يفاخر بانتمائه إلى ثقافة هذه الدولة أو تلك، ويرى فيها نموذجًا يحتذى عندنا الآن وهنا. هل يسع اللبنانيّين أن يتخلّوا عن حرّيّاتهم في سبيل إيديولوجيّات شموليّة لا تنسجم مع تراثهم وتاريخهم؟ هل بات النموذج المشتهى أن نعود القهقرى إلى أزمنة القرون الوسطى حيث تزداد الوصاية الفقهيّة المعمّمة بالحقّ الإلهيّ؟ علامَ يتصارع اللبنانيّون؟
جريدة “النهار” 24 شباط 2008