كتاب الأب إيليّا متري، زمن القداسة لم يتوقّف

الأب جورج مسوح Sunday March 16, 2008 181

يحدّثنا الأب إيليا متري في كتابه “ذكريات لا تُمحى” (تعاونيّة النور الأرثوذكسيّة للنشر والتوزيع) حديث القلب إلى القلب. يسافر بنا إلى الوراء مسافة عشرين عامًا أو أكثر بقليل، كي يضعنا في الفضاء الرحب الذي كان يتحرّك فيه طالبًا مريدًا لدى شيخه المطران جورج خضر. ليس الكتاب سيرة ذاتيّة أو جزءًا منها، بل هو كتاب الانطباعات التي كوّنها المؤلّف عن علاقته بمعلّمه الفكريّ والروحيّ في آن واحد.

يدعونا الكاتب إلى التعرّف بحياة دار المطرانية الرابضة على منزلق إحدى هضاب برمّانا. فالمطران، راعي الأبرشيّة، طلب إليه أن يأتي يوميًّا إلى الدار للدراسة التي كان محورها قراءة الكتاب المقدّس، وكتب منشورات النور، وأعداد مجلّة “النور” التي تصدرها حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة، منذ صدورها، أي ما يقارب الأربعين عامًا آنذاك. غير أنّ أكثر ما أثّر فيه فكان الأحاديث شبه اليوميّة مع “شيخه”، وأسلوب حياة هذا الشيخ وتعامله مع زائري الدار.

يقدّم الكتاب، في ثناياه وبين سطوره، شهادةً عن معلّم لم يكتفِ بالتعليم، بل عاش بمقتضى الكلمة التي كان يفسّرها ويعظ بها ويبثّها في الناس حياةً. الشهادة الحيّة الظاهرة في الواقع أقوى من الكلام النظريّ. ألم يقل الربّ يسوع: “أمّا مَن عمل وعلّم فذاك يدعى عظيمًا في ملكوت السموات”؟ ألم يتحدّث الكتاب عن الاقتداء بالمسيح بصفته ذروة السلوك المسيحيّ؟ ففي حديث الأب إيليّا عن شيخه شهادات عن تعامل هذا الشيخ مع الفقراء الذين يقصدون داره طلبًا للمساعدة، فلم يُرفض لهم طلب. “الفقراء بابنا إلى الملكوت”، قول ما زال يكرّره إلى اليوم عن قناعة لا تهتزّ.

ولا يتوانى المؤلّف عن التذكير بالنهضة التي أطلقها شيخه، مع بعض الصحابة، في جسد الكنيسة الأرثوذكسية التي كانت تعاني من تقهقر روحيّ وفكريّ امتدّ على قرون عدّة. والكاتب نفسه هو ابن هذه النهضة التي لولاها لما كان موقعه حيث هو اليوم، والله أعلم! فمن باب الوفاء لهذا التيّار النهضويّ المتجلّي بـ”حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة”، التي يقع عيد تأسيسها السادس والستّون اليوم، يذكّر الأب إيليّا بقاعدة شيخه الذهبيّة في ما يختصّ بالنهضة، وهي قوله: “لا تقوم جماعةٌ في حدود هذا الزمن، من دون حركة قلبها وقالبها فكر المسيح”.

هذه النهضة تستمدّ شرعيّتها، بالنسبة إلى الكاتب، من نهوض المسيح من بين الأموات. وعلى هذا المثال يقوم المؤمنون، أي الكنيسة، من بين الأموات، ليس في اليوم الأخير، يوم الدينونة، بل الآن وهنا، في الزمان والمكان الحاضرين. لذلك تعلّم الأب إيليّا من شيخه أنّ قراءة الكلمة وتوزيعها في الخدمة الإلهيّة، أي القدّاس، هدفها أن تعدّ القلب لاستقبال جسد المسيح ودمه. ليست المسيحيّة، إذًا، نظامًا عقائديًا أو تشريعيًّا أو أخلاقيًّا، بل هي، في الأساس، أن “تتناول المسيح الذي يوحّدك به وبأخوتك جميعًا”، أو بقول آخر “أن يبتلع المؤمنون جسد الربّ ليبتلعهم الربّ”.

كتاب الأب إيليّا متري “ذكريات لا تُمحى” ليس مجرّد سرد لذكريات صيغت بلغة أدبيّة راقية، وببيان بليغ، بل هو كتاب أراد مؤلّفه أن يوجز فكر معلّم من معلّمي القرن العشرين الدينيّين. هو كتاب يجد فيه قارئه عرضًا لاهوتيًّا مسكوبًا في قالب سرديّ مبسّط كي يصل اللاهوت إلى عموم الناس، لا أن يبقى أسير لغة جافّة تعيق فهم العامّة له. فمن لاهوت الكلمة إلى لاهوت الكنيسة المتحلّقة حول أسقفها، إلى لاهوت العبادة وارتباطها بالسلوك اليوميّ، يعبر بنا الأب إيليّا إلى الارتقاء بمعارج الروح.

إن كانت “الحياة في المسيح”، كما يقول القدّيس نقولا كاباسيلاس، هي هدف المسيحيّة، فهذا الكتاب يقدّم لنا شهادةً بأنّ زمن القداسة لم يتوقّف، ولم يغبر بعد.

 

جريدة “النهار” 16 آذار 2008

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share