تحتفل إسرائيل بالذكرى الستّين لتأسيسها، وشعبها ينعم بالأمن والهدوء. أمّا ضحيّة هذه الدولة، الشعب الفلسطينيّ، فما زال يدفع ثمن تأسيسها استشهادًا يوميًّا وإبعادًا عن أرضه وانعدامًا للأمل بالعودة إليها في المنظور القريب. وتنهال على إسرائيل تهانئ دول ما يسمّى بالعالم الحرّ وعلى رأسها زعيمة هذا العالم الولايات المتّحدة الأميركيّة.
نحن ندرك، وليس من دون مرارة، أنّ وجود إسرائيل واستمرارها في الحياة تحضنهما إرادة أميركيّة وأوروبيّة ثابتة، وإن على حساب العدالة وشرعة حقوق الإنسان وكلّ القيم التي تنادي بها هذه الدول من دون أن تسعى، في الواقع، إلى ممارستها إلاّ حيث يحلو لها ذلك. لكن لا يسعنا أن نقبل انضمام الفاتيكان إلى هذه الجوقة التبريكيّة لقيام دولة معتدية لا شيء يردعها عن التمادي في اغتصاب الأراضي المحتّلة.
فالبابا بينيديكتوس السادس عشر عند تسلّمه أوراق اعتماد السفير الإسرائيليّ الجديد لدى الفاتيكان شكر الله “على تحقيق تطلّعات الشعب العبريّ بامتلاك منزل على أرض أجداده”. لا شكّ في أنّ هذا الكلام لا يعبّر البتّة عن موقف إنجيليّ صميم، فكيف يُشكر الله على اغتصاب شعب لمنازل شعب آخر؟ أم أنّ قائل هذا الكلام لا يعرف أنّ إسرائيل قامت على طرد شعب كامل من منازله، ورفضها الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطينيّ؟ ألا يعرف البابا أن مقولة “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض” هي مقولة كاذبة ومشوّهة للتاريخ؟
ثمّ أشار البابا إلى “حاجة إسرائيل المشروعة إلى الأمن والدفاع”. في الواقع، هذا الكلام مثير للحزن الشديد، فمَن هم الذين في حاجة ماسّة إلى الأمن والدفاع، الإسرائيليّون أم الفلسطينيّون الذين لم تتوقف المجازر الإسرائيليّة بحقّهم وحقّ أولادهم؟ صحيح أنّه طلب من السفير الجديد “حضّ حكومته على السعي لتخفيف المعاناة عن الشعب الفلسطينيّ”. غير أنّ هذا الطلب غير كاف، ذلك أنّ المطلوب ليس “تخفيف المعاناة”، بل إرغام إسرائيل على تنفيذ القرارات الدوليّة كلّها التي تمنح الشعب الفلسطينيّ حقوقه، وعلى رأسها حقّ العودة إلى دياره. لكن، مَن يجرؤ على الطلب من إسرائيل الرضوخ للإرادة الدوليّة؟
ولم ينسَ البابا أن يناقش مع السفير المعتمد لديه “المخاوف بشأن التراجع المقلق في عدد السكّان المسيحيّين في الشرق الأوسط، ومن ضمنه إسرائيل بسبب الهجرة”. لا ندري تفاصيل ما جرى في هذا النقاش، غير أنّنا نرجو ألاّ يكون قد غاب عن بال قداسة البابا أنّ السبب الرئيسيّ لتقهقر أعداد المسيحيّين في المشرق العربيّ إنّما هو تأسيس هذه الدولة الغاصبة وزرعها في قلب هذا المشرق. وقلنا السبب الرئيسيّ وليس الوحيد، ذلك أنّ ثمّة أسباب أخرى لهذه الهجرة.
فبعد تقسيم فلسطين منذ ستّين عامًا تفاقمت المشاكل في العالم العربيّ، من الانقلابات وبدايات الأنظمة الديكتاتوريّة تحت ذريعة مقاومة إسرائيل وتحرير فلسطين، إلى نشوء حركات الإسلام الأصوليّ بديلاً لا بدّ منه لتلك الأنظمة التي فتكت بشعوبها وحرمتهم من الحرّيّة. لا يسعنا عزل مشكلة هجرة المسيحيّين عن هذه السياقات المحيطة، والتي لم تكن لتحصل بهذا الكمّ، وبخاصّة في أرض فلسطين التاريخيّة، لولا تأزّم الفكر العربيّ والإسلاميّ بسبب اغتصاب إسرائيل لحقوق أصحاب الحقّ.
وفي اللقاء بين البابا والسفير الإسرئيليّ جدّد البابا “دعوته إلى تخفيف القيود على تأشيرات الدخول لرجال الدين الكاثوليك”. لا نعتقد أنّ حجّ رجال الدين والسيّاح الأجانب إلى الأراضي المقدّسة، ولا “فيض النور الإلهيّ” من القبر المقدّس، يقدّمان دعمًا حقيقيًّا للحضور المسيحيّ في القدس وما حولها، بل الموقف الجريء الرافض للعدوان المستمرّ على الفلسطينيّين. لا بارك الله لإسرائيل بذكرى تأسيسها ولا سلّم.
جريدة “النهار” 18 أيار 2008