يُفترض بمَن يسعى إلى الحوار أن يغيّر بعض ما في نفسه وما في قلبه وما في عقله. ويفترض به أيضًا أن يغيّر نظرته وأحكامه ورؤيته عن الآخر المختلف. لا يمكن أن يذهب المرء إلى الحوار ويبقى كما كان قبل أن يذهب، كتلة جوهريّة صامدة كقلعة عنيدة لا يزعزعها التفكّر في الذات وعلاقتها بالآخر. الحوار مغامرة لاكتشاف حلاوة الآخر ولإشراكه في ما لدينا من حلاوة. لذلك الحوار لا يمكن أن ينتج إلاّ عن الحياة، عن الخبرة الشخصيّة التي يكتسبها الإنسان في تواصله مع شريكه الإنسان إلى أيّ دين أو فكر انتمى.
كنّا لنقول إنّ البيان الختاميّ الذي صدر عن “المؤتمر العالميّ للحوار” إنّما هو مجرّد بيان عاديّ لا يحمل مضامين جديدة أو إضافات نوعيّة، لو لم تكن المملكة العربيّة السعوديّة هي الداعية إلى عقد هذا المؤتمر في إسبانيا وليس على أراضيها. ذلك أنّ المملكة الوهّابيّة ليست بعد مهيّئة لاستقبال مؤتمر عن الحوار بين الأديان بسبب تشدّد المؤسّسة الدينيّة، وبسبب تكفير أتباع الأديان الأخرى وأتباع بعض المذاهب والفرق الإسلاميّة. ولذلك أيضًا استبعد المنظّمون لفظ “الأديان” من عنوان المؤتمر كي لا يستثار أحد من المتطرّفين.
لا يسعنا أن نرى في كلمة العاهل السعوديّ الملك عبد الله بن عبد العزيز في افتتاح المؤتمر إلاّ التزامًا ملكيًّا بالسعي إلى تغيير الذهنيّة السائدة في العالم الإسلاميّ، والسعي إلى إصلاح الفكر الإسلاميّ، ولا سيّما في العلاقات مع غير المسلمين. والإصلاح إنّما يبدأ بإصلاح الذات، “إنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم”. والكثير من التطرّف والتشدّد اللذين أدانهما الملك السعوديّ إنّما كان مصدرهما بعض رجال المؤسّسة الدينيّة في بلاده. أمّا القول بأنّ “المآسي التي مرّت في تاريخ البشر لم تكن بسبب الأديان، ولكن بسبب التطرّف الذي ابتلي به بعض أتباع كلّ دين سماويّ” فغير دقيق، ذلك أنّ أغلب الحروب الدينيّة على مرّ العصور إنّما تمّت بمباركة المؤسّسة الدينيّة الرسميّة وكبار القادة الدينيّين، وبناءً على التحالف بين السلطة السياسيّة والسلطة الدينيّة.
ويؤكّد العاهل السعوديّ مقولة رائجة ونسمعها في كلّ مناسبة وهي أنّ “الإسلام دين الاعتدال والوسطيّة والتسامح”. أين هو، اليوم، هذا الإسلام؟ مَن ألغى هذا الإسلام الجميل لصالح ما نراه سائدًا في عالمنا الحاضر؟ ألا يستحقّ هذا التغييب عملاً دؤوبًا ممّن يملك السلطة المعنويّة الكبرى في الإسلام، خادم الحرمَين الشريفين، لإعادة الاعتبار إلى هذا الإسلام؟ ألا يعني الاعتدال قبول الحديث الشريف “اختلاف أمّتي رحمة”، وتاليًا قبول التعدّد المذهبيّ في الإسلام؟ ألا تعني الوسطيّة عدم الغلو في الدين وتكفير كلّ مَن يخالف الرأي الأحاديّ؟ ألا يعني التسامح قبول غير المسلمين في المجتمعات الإسلاميّة والسماح لهم بممارسة شعائرهم الدينيّة ولو في مهد الإسلام؟ للمناسبة، يحكى عن النبيّ محمّد أنّه سمح لمسيحيّي نجران بالصلاة في داره على الرغم من اختلافه معهم في مسائل العقيدة والإيمان. ألا يجدر بخلفاء النبيّ أن يتمثّلوا به في هذا الأمر؟
“إنّنا جميعًا نؤمن بربّ واحد”قول جريء ورد على لسان العاهل السعوديّ. وهذا يعني القبول بالتعدّديّة الدينيّة والتنوّع الإيمانيّ منهجًا في العلاقات بين أهل الأديان، التوحيديّة منها على الأقلّ. وانطلاقًا من هذا الإيمان الواحد بالله ينبغي السعي إلى اللقاء الحقيقيّ المبني على الاحترام الكلّيّ لما يحمله كلّ مؤمن من تراث عريق راكمته سير القدّيسين والأولياء الصالحين. ومن دون هذا الالتزام بالتعدّد والتنوّع لا يمكن الحديث عن حوار مُجدٍ تبنى على أساسه علاقات سويّة بين الأديان وأبنائها.
دعوة الملك السعوديّ تبقى دعوة على الرجاء تستوجب خريطة طريق تعيد إلى الإسلام نهجه المنفتح على كلّ أهل الأرض. متى سيُعقد لقاء الأديان في مهد الإسلام كي نفرح حقًّا؟
جريدة “النهار” 27 تموز 2008