جدل قديم عمره أربعة عشر قرنًا يعود فيعوم على السطح من وقت لآخر. ومع أنّه عقيم إذ لا جديد فيه، يعيد هذا الجدل نبش أخبار الماضي ومواقف التراث كأنّ ما حدث منذ أربعة عشر قرنًا لم يمرّ عليه سوى ساعات معدودات. فتنشب المعارك الكلاميّة بين المرجعيّات المختلفة، وتسطَّر المطوّلات التي يحدس قارئها الملمّ بعض الشيء بالموضوع بمضمونها قبل أن يباشر بقراءتها، ذلك أنّها تستعمل الحجج نفسها المستعملة منذ قرون في الدفاع عن الذات وفي الهجوم على الآخر.
مناسبة هذه المقدّمة ما قرأناه على صفحات الصحف والمواقع الإلكترونيّة من جدل أطلقه الداعية يوسف القرضاوي استدعى ردودًا حادّة من بعض المرجعيّات الشيعيّة، ولا سيّما آية الله محمّد علي التسخيري والسيّد محمّد حسين فضل الله. فقد انتقد القرضاوي “الغزو الشيعيّ للمجتمعات السنّيّة بنشر المذهب الشيعيّ فيها”، بعد اعتباره أنّ “الشيعة مبتدعون لا كفّار”، والابتداع هو غير “الكفر البواح، أو الكفر الأكبر المخرج من الملّة”. ويؤكّد القرضاوي أنّ موقفه هذا من الشيعة هو موقف “كلّ عالم سنّيّ معتدل”، ومدرجًا قوله بابتداع الشيعة في سياق الردّ على غير المعتدلين من السنّة ممّن يقول عن الشيعة “إنّهم كفّار”. فغير المعتدلين، بحسب القرضاوي، “يصرّحون بتكفيرهم؛ لموقفهم من القرآن، ومن السنّة، ومن الصحابة، ومن تقديس الأئمة، والقول بعصمتهم، وأنّهم يعلمون من الغيب ما لا يعلمه الأنبياء”.
يستنكر القرضاوي ردود الأفعال الشيعيّة على أقواله، وبخاصّة ردّ نائبه في رئاسة الاتّحاد العالميّ لعلماء المسلمين آية الله التسخيري الذي اعتبر تصريحات القرضاوي “مثيرة للفتنة وناجمة عن ضغوط الجماعات التكفيريّة والمتطرّفة التي تقدّم معلومات مفتراة” عن الشيعة. فردّ القرضاوي بالقول إنّه لم يكن في يوم ما “مثيرًا للفتنة، بل داعيًا إلى الوحدة والألفة ووقفتُ ضدّ هذه الجماعات المتطرّفة وحذّرتُ من خطرها”. غير أنّه يؤكّد على التصدّي لمحاولات تشييع المجتمعات السنّيّة، وينبّه إلى أنّ هذا “الغزو” هو ما سوف يؤدّي إلى “الفتنة التي يُخشى أن يتطاير شررها، وتندلع نارها، فتأكل الأخضر واليابس”.
هذه المواقف المتنافرة تشير إلى تفاقم الأزمة بين المسلمين إلى حدّ الخشية من دخول دوامة الفتنة. والمستفظع في هذا الأمر هو أن يكون طرفا الجدل من العاملين على “التقريب بين المذاهب”، واحدهما رئيس الاتّحاد العالميّ للعلماء المسلمين وثانيهما نائبه. كما أنّ الشيخ القرضاوي معروف في الأوساط الإسلاميّة بصفته رمزًا كبيرًا من رموز “الوسطيّة والاعتدال”، وله كتاب عنوانه “مبادئ في الخوار والتقريب بين المذاهب والفرق الإسلاميّة” يعلن فيه إيمانه بالوحدة الإسلاميّة “بكلّ فرقها وطوائفها ومذاهبها”. فإن كانت الأزمة وصلت إلى المؤمنين بالحوار والتقريب، فذلك يعني أنّ الساعين إلى الفتنة بين السنّة والشيعة قد بلغوا شوطًا كبيرًا في طريقهم إلى تحقيق ما يصبون إليه.
الجدل في شأن جنس الملائكة أدّى إلى سقوط القسطنطينيّة إلى غير رجعة. وليس انطلاقًا من خوفنا على مصير المسيحيّين في هذا المشرق العربيّ وحسب، بل انطلاقًا من محبّتنا للمسلمين، شركاءنا في الوطن وفي المصير، نرغب أن نراهم متّحدين، وأن يدعوا جانبًا خلافاتهم العقيديّة والفقهيّة إلى أن يقضي الله بينهم فيما هم فيه مختلفون. فقضايا المسلمين هي قضايانا، ومصيرنا في الشرق رهن بمصيرهم. فلا يجوز التلهّي بالجدل الذي لا طائل منه في وقت لن تؤدّي المغامرة فيه إلاّ إلى الإطاحة بمصير الأمّة كلّها.
رجاؤنا، والرجاء ركن من أركان المسيحيّة مع الإيمان والمحبّة، أن نرى المسلمين متّحدين في فلسطين وفي العراق وفي لبنان وفي كلّ بقعة من ديار المسلمين لمواجهة الأخطار المحدقة بهم وبنا. وليس لنا أن نختم به قولنا إلاّ الآية الكريمة: “وتعاونوا على البرّ والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتّقوا الله”.
الأب جورج مسّوح
“النهار”، 19 تشرين الأوّل 2008