نقيم اليوم تذكار الآباء القدّيسين. من هم هؤلاء الآباء؟ هناك مَن نسمّيهم آباءنا القدّيسين مثل يوحنّا الذهبيّ الفم وغريغوريوس اللاهوتيّ، وباسيليوس الكبير ومكسيموس المعترف ويوحنّا الدمشقيّ… لا نسمّي كلّ الذين كتبوا باللاهوت آباء ولو كانوا عظامًا. أبونا هو الذي ولدنا. أبونا في الكنيسة هو الذي يجعلنا أولادًا لله بتعاليمه.
عندما تحتاج الكنيسة الى مَن يدافع عنها، عندما تكون في خطر، يُظهر الله فيها مَن يعلّم بصورة تدعم ما تسلّمناه من الرسل ويوضحه. ظهر الخطر على الكنيسة في أواخر القرن الأوّل من اليهود ومن الفلاسفة اليونانيّين، أو من اليهوديّة الممتزجة بفلسفة يونانيّة. ولهذا كان لا بدّ من تعليم عن لاهوت السيّد بصورة أوضح.
الكنيسة كجسم يهدّده المرض، وفي الجسم نفسه مَن يدافع عنه. تهدّد الكنيسة عقائد غريبة عنها لأنّ المسيحيّين يتأثّرون بما ليس بالمستقيم، ينجرفون وراء الأزياء الفكريّة الزائلة في عصرنا. حينئذ يبعث الله بإلهام منه رجالاً يوضحون العقيدة التي يجب أن نؤمن بها. وعندما يشتدّ الصراع يتجمّع هؤلاء في مجمع يقولون فيه إيمانهم.
عندما ظهر آريوس في الإسكندريّة وقال إنّ المسيح مخلوق، أي أنّه لم يكن مع الآب منذ الأزل، انبرى الشمّاس في الإسكندريّة أثناسيوس وقال: بل استنادًا إلى كتبنا المقدّسة المسيح غير مخلوق حتّى احتدم الجدل في مصر وانتشر في الأمبراطوريّة، فدعا قسطنطين الملك إلى مجمع عالميّ مسكونيّ للمرّة الأولى. وهذا المجمع سنّ دستور الإيمان الذي نتلوه اليوم في القدّاس الإلهيّ.
يتصوّر البعض أنّنا في دستور الإيمان وفي العقيدة التي نعلّمها نتفلسف أو نأتي بأشياء صعبة. طبعًا هي صعبة إلى حدّ كبير ويتعلّمها الطلاّب في معاهد اللاهوت. لكن بالنسبة إلى الآباء الأوائل كانت هذه الأقوال ضروريّة جدًّا لأنّ الكنيسة كانت في خطر، وكان لا بدّ من أن يتوجّهوا إلى الناس حسب لغة الناس ومفاهيم الناس آنذاك.
الذين كانوا يسمعون «مولود غير مخلوق» كانوا يفهمون أنّ المسيح أزليّ مع الآب، وكانوا يفهمون أنّ هذا الكلام يضحد تعليم آريوس وأنّه يثبّت الإيمان الأرثوذكسيّ.
دافع الآباء عن العقيدة الصحيحة وارتضى المسيحيّون الأرثوذكسيّون أن يموتوا من أجل إثبات صحّة العقيدة، ذلك بأنّهم كانوا يصرّون على أنّ لديهم شيئًا جوهريًّا في إيمانهم لو فقدوه يموتون روحيًّا: إن لم يكن المسيح إلهًا فالذي مات على الصليب لا يخلّصنا. المسيحيّون لا يجادلون من أجل الجدَل، ولكن إن كان المسيح إنسانًا عاديًّا فنحن بلا فداء وبلا أمل. الموضوع في الدفاع عن الإيمان موضوع حياة أو موت، حياة في المسيح أو موت بدون المسيح. خلاصنا كلّه متعلّق بهذه العقيدة.
العقيدة التي نتعلّمها ونردّدها في صلواتنا هي نوع من الحدود إن تجاوزناها نقع في وادي الموت والظلام. لا نستطيع أن نبدّد هذا الميراث الذي ورثناه. إن أتى من يقول لنا: عقيدتكم قطّعوها إربًا، انزعوا منها ما يزعجنا لنحيا في وئام، أرضونا وقولوا إنّ المسيح ليس إلهًا وإنّه إنسان عاديّ نرفض كلّ الرفض. الإيمان ليس ملكًا لكلّ من أراد أن يفرّط به. نحن استلمناه ونبقى عنده لأنّ منه لنا الحياة.
هذه هي أهمّيّة عيد الآباء. نحن أولاد آبائنا. نحن أبناء الرسل والأبرار والقدّيسين والشهداء، ونستمرّ هكذا بإخلاص قويّ قد يسمّيه البعض عنادًا، ونحن نسمّيه إخلاصًا ونستمرّ فيه بتواضع، إذ إنّ نعمة ربّنا حافظت علينا فيه عبر آبائنا.
المطران جاورجيوس
نشرة رعيتي
15 تموز 2018