يستنكر معظم القادة الدينيّين المسيحيّين الاستغلال السياسيّ للدين واستعماله في الصراع السياسيّ، فالدين برأيهم أسمى من أن يُقحم في السجالات اليوميّة الدائرة بين مختلف شرائح الطبقة السياسيّة. ويميّز هؤلاء بين المواقف الوطنيّة الكبرى التي للكنيسة أن تبدي رأيًا بها، وبين المواقف السياسيّة التي ينبغي النأي عن الانزلاق إليها. غير أنّ بعضهم سرعان ما يتّخذون مواقف يستغلّون فيها موقعهم الدينيّ لدعم موقفهم السياسيّ، أو لدعم طرف سياسيّ ضدّ طرف آخر.
ويبدو أنّ هؤلاء البعض يرغبون باستعمال “الحقّ الإلهيّ” ضدّ مَن يناهضهم في الموضوع السياسيّ، فيهدّدون بالحُرم الكبير. ينتقدون “التكليف الشرعيّ” عند غيرهم، ويمارسونه في رعاياهم. ينتقدون الفتاوى السياسيّة، ويصدرون الفتوى تلو الأخرى. ينتقدون “ولاية الفقيه” لجمعها السلطتين السياسيّة والدينيّة برأس واحد، ويتوقون إلى ممارستها في كنائسهم. ينتقدون مقولة “النصر الإلهيّ”، ويسعون إلى “نصر إلهيّ” على أخصامهم في السياسة. يظنّون أنفسهم معصومين عن الخطأ لا في الشأن الدينيّ وحسب بل في كلّ شأن آخر. فكيف يمكننا فهم التهديد بالحُرم إن لم نضعه بدءًا في إطار استغلال الموقع الدينيّ لجلب مصالح سياسيّة دنيا؟
يحدّثونك عن الحرّيّة، حرّيّة أبناء الله، التي هي بحسب اللاهوت المسيحيّ صورة الله في الإنسان، فإذا انتفت يبطل الإنسان إنسانًا. ثمّ يلوّحون بحقّهم الإلهيّ لإلغاء حرّيّتك وسيادتك على الكون التي منحها إيّاك الله. فالقائد الدينيّ ينسى أنّه قد انتخب بحقّ إلهيّ وبنعمة الروح القدس أسقفًا مدى الحياة ليرعى شعب الله وشؤونه الإيمانيّة والعباديّة. بينما الديموقراطيّة تفترض العودة إلى الشعب بعد فترة تحدّدها القوانين لانتخاب مَن يمثّله سياسيًّا. فهل يرضى السادة الدينيّون الراغبون بالعمل السياسيّ العودة إلى الشعب بعد عدّة من السنين لإعادة تجديد بيعتهم الدينيّة والسياسيّة معًا؟ الحقّ الإلهيّ يتوقّف عند أبواب الكنيسة، أمّا خارجها فالأمر يعود إلى ضمير كلّ مواطن.
ثمّ لماذا هذه الخفّة التي لا تطاق؟ هل هو بالأمر البسيط التهديد بحُرم كنسيّ لمَن يخالف رأيًا آنيًّا لرئيسه الدينيّ؟ هل أصبحت مخالفة رأي أحد الأساقفة في شأن غير دينيّ مخالفة لرأي الله؟ هل أصبحنا مشركين لكي نجعل مشيئة بشريّة توازي مشيئة الله؟ هل أضحت الطاعة لله طاعة عمياء لمَن يتبوّأون المراكز السامية في كنيسته؟ كيف ينصّب القائد الدينيّ نفسه قائدًا أوحد للأمّة؟ أليست هذه ديكتاتوريّة وتوتاليتاريّة وحكمًا شموليًّا لا يرضى بالاختلاف؟ ولكن، ولله الحمد، تمّ الفصل بين السلطتين الزمنيّة والدينيّة في البلاد المتحضّرة، أمّا في بلادنا فما زال الالتباس بينهما قائمًا بسبب التحاصص الطائفيّ، وإن تبنّى الدستور اللبنانيّ الفصل بين السلطتين.
الاستغلال الدينيّ والطائفيّ والمذهبيّ في السياسة اليوميّة هو الآفة الكبرى التي تصيب مجتمعنا اللبنانيّ في مقتله. فالخطوة الأولى نحو مجتمع سليم وراقٍ تكمن في تنزيه الدين عن الاستعمال في التراشق السياسيّ الداخليّ، والارتقاء به إلى مستوى التوجيهات العامّة بما فيه خير الإنسان وإعمار الأرض. لكنّ بعض الإكليروس ينساق بسبب ميل سياسيّ لديه لاستغلال موقعه الدينيّ كي يثقل على ضمائر المؤمنين إذا خالفوه الرأي. وهذا استغلال لسلطته وإفراط باستعمالها في غير موقعها، إفراط يعاقب عليه القانون في الأوطان التي تحترم حرّيّة المواطنين.
التهديد بالحُرم في المجال السياسيّ هو إعلان إفلاس. العادم الحجّة هو مَن يلجأ إلى التهديد بالويل والثبور وعظائم الأمور وبالقصاص الأكبر. فهل ما زالت تدغدغ البعض مشاعر العودة إلى القرون الوسطى حين كان الإكليروس يتحكّم برقاب العباد، ومشاعر الحنين إلى أيّام محاكم التفتيش الغابرة؟ هل صار الحوار مستحيلاً بين أبناء الكنيسة الواحدة كي يلجأ البعض إلى التهديد بالكيّ والبتر وتقطيع الأوصال؟ هل بات أهل “الكلمة”، والكلمة هو يسوع المسيح نفسه، بلا كلمة؟ هل باتوا بلا مسيح؟
الأب جورج مسّوح
“النهار”، 8 آذار 2009