بعد أن فرغت من قراءة الصحف اليوميّة ومن متابعة النشرات الأخباريّة المرئيّة، وبعد أن لاحظت التشابك بين الخطابين الطائفيّ والسياسيّ في أقوال رجال السياسة ورجال الدين على حدّ سواء، خطر في بالي أن أطلب إلى السيّد المسيح أن يرأف قليلاً بحال المسيحيّين فيخفّف قليلاً من مقتضيات التعاليم الإنجيليّة، كي تتماشى هذه التعاليم مع واقع المسيحيّين الراهن. وهذا يتطلّب من ناحيته أن يعلّق العمل ببعض آياته كي لا يثقل ضمائر أتباعه بما يفوق قدرتهم على التنفيذ. ودونكم بعض الآيات على سبيل المثال لا الحصر موضوعة على لسان مَن يعنيهم الأمر.
“طوبى لكم إذا عيّروكم واضطهدوكم وقالوا عليكم كلّ كلمة سوء من أجلي. هكذا اضطهدوا الأنبياء قبلكم”. فإن كنت لا أستطيع أن أصمت أمام مَن يشتمني بلسانه، فكيف تريدني أن أصمت أمام مَن يضطهدني؟ وتتابع قائلاً: “لا تقاوموا الشرّير. مَن لطمك على خدّك الأيمن، فحوّل له الآخر”. هل المطلوب أن يسخر منّي الناس وأن أبقى بلا ردّة فعل؟ أين كرامتي؟ قد تقول إنّ كرامتي آخذها منك لا من الناس. لكن ما العيب في أن يكرمني الناس ولو بلسانهم فقط؟
“أحبّوا أعداءكم، وصلّوا لأجل الذين يضطهدونكم”. هذا كثير عليّ أن أتحمّله. فإن كان مستحيلاً عليّ أن أحبّ أخي أو جاري أو زميلي في العمل، فكيف تطلب منّي أن أحبّ عدويّ؟ مهلاً عليّ، ترأّف بي. وقلت في مكان آخر: “أحبّوا بعضكم بعضًا كما أنا أحببتكم. فإن أحببتم بعضكم بعضًا يعرف الناس جميعًا أنّكم تلاميذي”. ألا يكفي أن أحمل اسمًا مسيحيًّا، أو أن أنتمي إلى عائلة مسيحيّة، أو أن يكون أبواي قد عمّداني طفلاً كي أكون من تلاميذك؟ ما دخل المحبّة في كلّ ذلك؟ خفّف قليلاً من شروطك، أرجوك.
فدنا بطرس وقال ليسوع: “يا سيّد، كم مرّة يخطأ إليّ أخي وأغفر له؟ أسبع مرّات؟” فأجابه يسوع: “لا سبع مرّات، بل سبعين مرّة سبع مرّات”. سبعون مرّة سبع مرّات تعني العدد غير المحدود، اللانهائيّ. هل هذا منطقيّ؟ قد تكفي مرّة واحدة، وإكرامًا لك أرضى بمرّتين لا أكثر.
صحيح أنّك قلت لتلاميذك – وليس لنا؟ – بعد أن غسلت أقدامهم إنّ “العبد ليس أفضل من سيّده”. وطلبت منهم أن يقلّدوك ويتأسّوا بك في كلّ عمل فعلته. لكن، عذرًا، هذا يفوق طاقتي. أما كان الأفضل أن تطلب من تلاميذك أن يغسلوا قدميك؟
أنت على الصليب. يستهزئ بك الجنود. يتهكّم عليك المارّون. يشتمك أحد اللصّين المصلوبين إلى جانبيك. قبل ذلك جلدوك، وبصقوا عليك، ولطموك، ولكموك، وسخروا من ملكك واضعين إكليلاً من شوك على رأسك. أنت على الصليب صامد. لم تنـزلق إلى أيّة ردةّ فعل خاطئة. لم تلقِ عليهم الحُرم. تضرّعت إلى أبيك قائلاً: “اغفرْ لهم يا أبتاه، لأنّهم لا يدرون ما يعملون”. لكن، والكلام بيننا، لماذا لم تطلب إلى أبيك أن يرسل لك أجواقًا من الملائكة كي تقاتل مَن أهانوك واستهانوا بك؟
تطلب منّا إذا أردنا أن نتبعك أن “نكفر بأنفسنا ونحمل صليبك ونتبعك”. نحن نتزين بالصليب، ونحمله على صدورنا، ونضعه فوق رؤوسنا، ونرفعه على كنائسنا. ألا يكفيك ذلك. ثمّ أليس كثيرًا أن أكفر بنفسي؟ كيف تريدني ألاّ أؤمن بنفسي وبقدراتي وبسلطتي؟
“كنت غريبًا فآويتموني”. قلتَ هذه العبارة في معرض حديثك عن الدينونة. ساويت نفسك أيضًا بالجائع والعطشان والعريان والمريض والأسير. وفي مثل السامريّ الصالح سألت سائلك: “مَن صار قريبًا للذي وقع بين أيدي اللصوص؟ الذي صنع معه الرحمة”. ألم يكن من الأفضل أن تقول إنّ قريبي هو ابن عشيرتي وابن قبيلتي وابن طائفتي وكلّ مَن يوافقني الرأي، عوضًا عن أن تطلب إليّ أن أقدّر ظروف الغريب وأن أحبّه؟
ارحمنا يا ربّ، ارحمنا.
الأب جورج مسّوح
“النهار”، 29 آذار 2009