التعايش الإسلامي-المسيحيّ: واقع بهيّ أم واجب مرّ؟

الأب جورج مسّوح Tuesday October 31, 2006 192

شنّ العدوّ الإسرائيليّ حربًا على لبنان لم يرحم فيها الحجر ولا البشر. قتّل بلا هوادة ولا رادع أخلاقيّ، دمّر المنازل، دكّ الجسور، حرث الزفت، أحرق المواسم، نثر القنابل العنقوديّة، ولم يُبقِ ولم يذر يابسًا أو أخضر، جافًّا أو طريًّا… لكن ماذا عن الوحدة الوطنيّة والتعايش المسيحيّ الإسلاميّ أثناء هذه الحرب وبعدها؟

في الواقع، استقبل اللبنانيّون من مختلف الطوائف إخوتهم المواطنين النازحين من المناطق المنكوبة بالعدوان الإسرئيليّ. ومنهم مَن استقبل المهجّرين بتلقائيّة وعفويّة، وبإنسانيّة تتخطّى كلّ الخلافات السياسيّة والاجتماعيّة والدينيّة. لكنّ غيرهم، ممّن استقبل هؤلاء، فبناءً على توجيهات سياسيّة أتت من زعيم هذه الطائفة أو تلك، سواء من المناصرين والحلفاء أو من الذين لهم اعتراضات على التوجّه السياسيّ الذي يتبنّاه معظم النازحين. وللأسف، لم تكن العفويّة هي الدافع في كلّ الأحيان. لذلك يصعب القول والاستنتاج بأنّ إيواء النازحين هو دليل على الوحدة بين اللبنانيّين.

فالكلام على الوحدة الوطنيّة لا يستقيم إنْ لم يكن ثمّة «مواطن» بكلّ ما للكلمة من معنى. فما رأيناه وشاهدناه، ما عدا استثناءات متفاوتة الحجم، لم يكن الدافع إليه وحدة وطنيّة، بل كان «وحدة بين طوائف»، وهذه الوحدة لا تعني البتّة «وحدة وطنيّة»، ذلك أنّ أيّ زعيم طائفة باستطاعته تحويل هذه الوحدة إلى انقطاع، بمجرّد اتّخاذه بمزاجيّة حادّة مواقف تتعارض مع مواقفه الآنفة، سرعان ما يصطفّ وراءها كلّ مشايعيه، من دون أيّ حسّ نقديّ أو تساؤل منطقيّ عن مسبّبات التغيير و”التكويع”.

التوافق بين السياسيّين على أساس طائفيّ لا يبني مجتمعًا وطنيًّا موحّدًا، فأيّ خلاف بينهم يهدّد الوطن بالانقسام العموديّ بين المنتمين إليهم طائفيًّا. بل بناء «المواطن» الفرد، الذي يعرف حقوقه ويحترم واجباته تجاه المواطنين الآخرين، هو، وحده، الذي يصنع الوحدة الوطنيّة. ما نحياه في وطننا، اليوم، هو نوع من توازن رعب قوامه الطوائف ومصالحها، وشهوات أبنائها من المقتدرين أو الساعين إلى حصّة من الجبنة التي اسمها السلطة والمال.

وهذا الأمر ليس جديدًا، فمجرّد الحديث عن الطائفيّة، والتوزيع الطائفيّ للحقائب الوزاريّة، وللمقاعد النيابيّة، ولوظائف الفئة الأولى وما دونها من فئات، يعني غياب الكفاءة وإعلاء شأن زعيم الطائفة الذي هو، وحده، الباب إلى تبوّء كلّ المراكز. وبذلك يرتهن صاحب المركز إلى الزعيم، ولا مجال لمحاسبته، فمحاسبته تعني تعدّيًا على طائفته. وأيّ نقد يوجَّه إلى أيّ مستنفع من الطائفة هو تطاول على الطائفة كلّها لا تُحمد عقباه. وتاليًا، يحتشد مَن يحتشد تلبيةً للعصبيّة الطائفيّة والذود عن الطائفة وحياضها. والعياذ باللَّه.

جاء اتّفاق الطائف (١٩٨٩)، ليضع خاتمةً للحروب التي جرت على الأراضي اللبنانيّة. كلّ الحروب في مختلف تسمياتها: حروب الآخرين على أرض لبنان، الحروب بين اللبنانيّين، الحروب بين المسلمين والمسيحيّين، بين المسيحيّين، بين المسلمين، حرب العلم، حرب التحرير، حرب الإلغاء… ثمّ لحقه الدستور الجديد الذي ثبّت في مقدّمته أنّ لا شرعيّة لكلّ ما يتناقض والعيش المشترك. هكذا فتح الباب أمام رؤساء الطوائف للاعتراض على كلّ ما يمكن أن يفسّروه بأنّه يتعارض والقيم التي يؤمنون بها. على سبيل المثال، تعطّل الشروع في وضع قانون الزواج المدنيّ الاختياريّ (١٩٩٨) قيد التطبيق لمخالفته – بين أمور أخرى – هذا المبدأ الوارد في مقدّمة الدستور.

من جهة أخرى، دعا اتّفاق الطائف إلى تشكيل لجنة لإلغاء الطائفيّة السياسيّة. ذلك أنّ واضعي هذا الاتّفاق قد استنتجوا أنّ الطائفيّة السياسيّة لا ينبغي لها أن تدوم، ولأنّها تذكي نار الصراعات بين الطوائف، ولا يسعها أن تكون الإطار الصحيح والسليم لوحدة وطنيّة منشودة بعد حروب ضروس فاق عدد قتلاها المائة ألف ضحيّة. ولحظ الدستور اللبنانيّ المساواة بين المواطنين اللبنانيّين كافّة، وهذا من نوافل الأمور.

غير أنّ واقع الحال ووقائع الأمور ذهبت في اتّجاه آخر. ومراقب الأحوال الطائفيّة والعلاقات بين الطوائف لا بدّ سيسجّل تصاعدًا في الخطاب الطائفيّ، وحدّةً لا حدود لها بين المدافعين عن حقوق طوائفهم في وجه الطوائف الأخرى. والحجّة، في هذا كلّه، «الحفاظ على المشترك»، و«عدم الإخلال بالتوازن الطائفيّ»… وأدعو القارئ إلى تصفّح العدد الثاني لمجلّة المرقب (١٩٩٨) التي أصدرها مركز الدراسات المسيحيّة الإسلاميّة في جامعة البلمند، حيث يجد فيها الوقائع الطائفيّة لعام ١٩٩٧ ص (٢٦٩-٣٧٢) تحت العناوين الآتية: العيش المشترك، زيارة البابا، الإرشاد الرسوليّ، الزواج المدنيّ، قانون الإعلام، قوانين الانتخابات، الإحباط المسيحيّ، المهجّرون، التجنيس، الإصلاح الإداريّ، المقاومة. حتّى تسمية المدينة الرياضيّة أثارت جدلاً طائفيًّا كاد يودي عرض الحائط بالعلاقات التاريخيّة بين الطوائف. كما يجد القارئ، في العدد عينه، ملفًّا عن «الطائفيّة في التعليم»، وآخر عن “الترويكا”.

ما عدّدنا هذه العناوين إلاّ لنقول إنّ الاستقطاب الطائفيّ زاد حدّة في دولة «الطائف». وباتت كلّ مسألة سياسيّة أو كلّ مشروع لقانون جديد يستدعي جدالاً طائفيًّا، وحشدًا لمقدّرات الطوائف في سبيل كسب أيّ موقع يعزّز من متانتها وسطوتها على أبنائها. لن ندخل، هنا، في نقاش حول أسباب تفشّي الطائفيّة على حساب ضمور المواطنة. فالداخل، كالخارج، ساهم في مدّ الظاهرة الطائفيّة بالحقن المستنفرة لهمم أبنائها، وحضّ المتأهّبين دومًا واستنهاضهم للموت في سبيل إعلاء اسم الطائفة وماسك أمورها.

وبناء على قراءة متأنّية للخطاب السياسيّ والبيانات والتصريحات التي تصدر عن هذه الهيئة السياسيّة أو الدينيّة أو تلك، يسعنا القول إنّ الانتماء إلى الطائفة يتقدّم عند الكثير من اللبنانيّين – لا كلّهم، وللَّه الحمد – على الانتماء الوطنيّ إلى لبنان «الوطن النهائيّ» كما ورد في الدستور. وهذا الكلام لا ينسحب على فئة دون الأخرى، أو على طائفة دون الأخرى. وليس الحديث عن الانتماء الوطنيّ، عند الكثير من أصحاب التصريحات، سوى غطاء شفّاف يستبطن كلامًا طائفيًّا أو مذهبيًّا لحشد ما يمكن حشده واستثماره، إنْ في صناديق الانتخابات، أو في الساحات العامّة، أو في تعيين «المحسوبين» في الدولة.

أتت الحرب وغدرت وغادرت، ولم تأتِ بالحلّ السحريّ للعيش المشترك. قد كان يسعدنا أن نضيف إلى إيجابيّات الحرب أنّها صنعت تقاربًا أكثر ثباتًا بين اللبنانيّين من جميع الطوائف. ليس هاجس مقالتنا أن نقرّر إنْ كنّا ربحنا الحرب أم خسرناها، إنّها وجهة نظر يفرضها الأقوى الذي يصنع التاريخ. هاجسنا التقارب بين اللبنانيّين، ويبدو أنّ الشرخ الطائفيّ والمذهبيّ قد زاد، على الرغم من أنّ التحالفات في الضفّتَين مكوّنة من غالبيّة ذات لون واحد طاغٍ مع تنويعات هنا وثمّة.

هذا لا يعني، بأيّ حال من الأحوال، أنّ اللبنانيّين ذاهبون إلى صراع حتميّ لا مردّ له. رجاؤنا أن يعي اللبنانيّون أنّهم محكومون بالعيش معًا. فمنذ أكثر من قرن ونصف تتوالى الحروب والنزاعات بينهم، ودائمًا بتدخّل خارجيّ هم أدواته وضحاياه. إلى متى سنبقى وقودًا في مراجل أصحاب السلطان والقائمين على حيواتنا وأنفسنا وأنفس اطفالنا؟ إلى متى سيُستغل الدين، الذي جُعل لخير الإنسان وإعمار الأرض، ساحةً مستباحةً لمَن يبتغي الفتنة بين أبناء الوطن الواحد؟

حال العيش المشترك كحال الشاعر العربيّ القائل:

فيا دارَها بالخَيف إنّ مزارَها

قريبٌ، ولكن دون ذلك أهوالُ

 

مجلة النور، العدد السابع 2006، ص 372-373

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share