أحوال الإيمان الإنترنتيّ

الأب جورج مسّوح Thursday September 15, 2005 175

الأب جورج مسّوح

 

بات من المسلّم به أنّ السمة الغالبة على زمننا الراهن إنّما هي التطوّر التقنيّ الهائل، ولا سيّما في حقول الاتّصالات، واستقاء المعلومات وتبادلها على غير صعيد. ولا بدّ من الإقرار بأنّ الإنترنت، إلى أجل مسمّى، ولكلّ متحوّل، أكان متحركًا أم جامدًا، أجلٌ، والحمد للَّه، أضحى «أوتوسترادات» متقاطعة ومتشابكة لضخّ المعلومات، ومَن لا يغامر بالمشاركة في المباريات الجارية على هذه «الأوتوسترادات»، عدا عن أنّه يُعدّ خاسرًا منذ اللحظة الأولى، فهو خارج الزمان والمكان، ولا يستحقّ أيّ دمعة حزن لغيابه الصامت كمثل بحصةٍ، بعد استحصال الإذن من الشاعر العربيّ، حطّها السيلُ من علِ.

صائبٌ القول إنّ التقنيّات التي وفّرها الإنترنت قد فتحت الباب واسعًا أمام جميع الإيديولوجيّات، من أديان وطوائف ومذاهب وبدع وشيع وزيَغ، وأحزاب وجمعيّات سرّيّة وغير سرّيّة وسواها من تجمّعات بني الناس، كي تبثّ أفكارها، وتروّج معتقداتها، و«تسوّق» (للمناسبة، هذا تعبير غير مبتذل) منافع الانضمام إليها. ولن نخوض، في هذه العجالة، في الإمكانات الكامنة في الشاشات الفضائيّات، التي تفوق بما لا يوصف الإمكانات الإنترنتيّة، تلك الفضائيّات التي اقتحمت نخاعات بني آدم، حتّى مخادع البعض منهم.

إذًا، التقنيّات العلميّة تتطوّر وتتقدّم في كلّ الحقول، ولا سيّما في ميدان تقديم المعلومات، كالإنترنت والشاشات الفضائيّة… غير أنّ هذا التطوّر العلميّ، وللمفارقة، لم يؤثّر كثيرًا في الفكر الذي تحمله هذه الإيديولوجيّات وتقدّمه لمستخدمي هذه التقنيات. أمّا ما يعنينا في هذا السياق فهو الفكر الدينيّ، أو بالأحرى الفكر الإيمانيّ، كي لا ينزعج مَن يزعجه الحديث عن الفكر الدينيّ في المسيحيّة! لكن، عذرًا، فربّما ينبغي الحديث عن «الإيمان» ومضمونه فحسب، لا عن الفكر الإيمانيّ! فلفظ «فكر» ربّما يزعج هذا البعض نفسه! وحاشا أن نكون مريدين إزعاج أحد. وما أدراك معنى أن تكون «مريدًا» لدى بعض الشيوخ!

ثمّة انقطاع لا يُمكن ردمه سريعًا بين التقدّم التقنيّ من جهة، وتخلّف الكثير ممّا هبّ ودبّ من الصفحات الإنترنتيّة الدينيّة من جهة أخرى. ويزيَّن للبعض أنّ مجرّد استعمال التقنيّات العلميّة يكفي وحده من أجل الدلالة على تطوّر الخطاب الدينيّ. فوسيلة التبليغ لمن يغيّرها، من اللسان إلى الإنترنت مرورًا بالقلم، لا تكفي وحدها حجةً لصالح القول بأنّ صاحبها يتقدّم إلى الأمام. فلو تصفّحنا هذه الصفحات لوجدنا أنفسنا نعود إلى الوراء مئات السنين، فالمعلومات المتوافرة قديمة، ومكرّرة مع أنّها دائمًا خام، ومنقطعة عن سياقاتها التاريخيّة والاجتماعيّة والثقافيّة والحضاريّة، ولا علاقة لها بتساؤلات شباب اليوم ولا بتطلّعاتهم.

المشكلة ليست في وسيلة التبليغ، بل في مضمون ما يقدّمه الهداةُ المسخِّرون هذه التقنيّات في سبيل نشر الإيمان إلى أطراف الدنيا الأربعة. فما فائدة التقنيّات إذا كان الخطاب المحمول عليها منقولاً في جملته من الكتب القديمة، من دون أيّ إضافة تجعله آنيًّا؟

وما فائدة التقنيّات إذا كانت آليّات طرح الموضوعات والأسئلة والإجابة عنها هي ذاتها لا تتبدّل ولا تستفيد من أيّ علم من العلوم الحاليّة، ولا سيّما العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة؟

وما فائدة التقنيّات إذا كانت الفتاوى (نعم ثلاثًا! فتاوى مسيحيّة!) والاستشارات الروحيّة، التي تصدر ردًّا على تساؤلات معاصرة، لا تستنبط سوى ما غبر من آراء كان لها قيمة كبرى في عصرها، وانعدمت في عصرنا؟

وما فائدة التقنيّات إذا كان الخطاب الدينيّ لا يعنيه العقل، بل يخاطب الغرائز ويسايرها، ولا يحثّ على التفكير بل على البلادة الذهنيّة؟ فلكلّ سؤال جواب جاهز كالكامخ – لم يجد العرب أجود من هذا التعبير لتعريب لفظ «سندويش» – المتوفّر في نقاط بيع «الطعام السريع». كما أنّه ليس من داعٍ لإجهاد النفس وإعمال العقل، فثمّة مَن فكّر قبلنا وترك لنا أجوبة ستدوم إلى قيام الساعة، وربّما إلى ما بعدها!

ينبغي، إذًا، أن يكون التطوّر التقنيّ حافزًا للمؤمنين كي يواكبوا العصر القائمين فيه إلى حين. ففي وقت يسرع فيه العالم إلى عصور ما بعد الحداثة، ما زال خطابنا الإيمانيّ يرتع آمنًا في العصور السحيقة. ونحن، هنا، لا نعقد مفاضلة بين القديم والحديث، بل ما نرجوه هو أن يُحمل مضمون الإيمان، الذي لا يتغيّر إذ أعطي مرّة واحدة وإلى الأبد، على قواعد حديثة تلتزم الأسس القديمة التي وصلتنا بواسطة القدّيسين، ولا سيّما الشهداء، وتضيف إلى ما سلف ما تفرضه السياقات الراهنة.

إنّ رواج الصفحات الإنترنتيّة لا يعني البتّة أنّ ما يُقدَّم عليها يساهم في فائدة مَن يقرأونها، بل يسعنا القول إنّ تلك الوسائل، في الكثير من الحالات، تساهم في تعميم الجهل والبعد عن إعطاء أجوبة سديدة تأخذ في الاعتبار الواقع المرهق الذي يحيا فيه جلّ المؤمنين.

مجلة النور، العدد السادس 2005، ص 297-298

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share