الأب جورج مسّوح
لا يمكن، اليوم أو غدًا، الحديثُ عن أيّ ميدان من ميادين اللاهوت والفكر الأرثوذكسيّ، خلال القرن العشرين، من دون ذكر المطران جورج (خضر) ومساهماتِه المدوّنة في الكتب والمجلاّت والصحف والدوريّات، وهي لا تحصى ولا تعدّ. فبالإضافة إلى الافتتاحيّات المتنوّعة التي ينتظرها عشّاق البلاغة والكلمة الطيّبة صباح كلِّ سبت، مرورًا بالدراسات والمحاضرات والندوات المتعدّدة المواضيع، يسعنا نحن الذين عاشرناه وسمعنا أحاديثه أن نستذكر دائمًا لطف الـمَعشر، وبراءة القلب، ودماثة الطبع، واتّقاد الذهن، وحلاوة اللسان، وسحر البيان.
كما كتب العديد من البحاثّة والطلاّب الجامعيّين دراسات، أو أطروحات في الدراسات العليا تناولت فكره، في إحدى الموضوعات التي أبدع فيها وأضاف ما يستأهل الدرس والمناقشة. ونستطيع هنا أيضًا ذكر مؤلّفاته التي تُرجمت إلى اللغات الأجنبيّة، ولا سيّما الفرنسيّة، أو التي نُشرت أصلاً بتلك اللغات. فالمطران جورج درس اللاهوت في معهد القدّيس سرجيوس اللاهوتيّ في باريس، ما أتاح له التعرّف إلى الجالية المهاجرة من الأرثوذكس الروس، فتتلمذ على كبارهم، وتصادق مع أترابه من طلاّب ذلك الزمان. واحتفظ الكثير من أبناء ذلك الجيل بالانطباع الجيّد عن جورج خضر الشابّ الذي كان، كما قال أحد الشهود، «يحوّل كلّ الأحاديث الجارية في حضوره إلى مناقشات لاهوتيّة عميقة». لقد كرّس جورج خضر وقتَه كلّه لدراسة اللاهوت، فلم يكن ثمّة وقت لإضاعته.
قبل أن يذهب جورج خضر إلى فرنسا، أسّس مع رفاقه حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة، وأطلق مجلّة «النور». هذه الحركة هي الابنة البكر لخضر، والأحبُّ إلى قلبه، لأنّ فيها ينضغط كلّ حلمه بنهضة واعدة لشباب كنيسته وشيبها. وقد فرضت الحركة ذاتها وصواب رأيها في الكثير من الأوقات التي كانت تتطلّب مواقف حازمة، لصدّ بعض السلوكات المنحرفة وإعادتها إلى جادّة الاستقامة. وبعد عودته، رُسم شمّاسًا ثمّ كاهنًا ثمّ أسقفًا على جبل لبنان. وبقي على تلك المحبّة الأولى التي نشأ عليها، مناضلاً لا يستسلم أمام أيّ اعوجاج يراه، وبخاصّة في الكنيسة، فلا تراه إلاّ صادعًا بالحقّ عاليًا.
يهمّنا اليوم أن نلقي الضوء على بعض من تراث جورج خضر. لذلك، سيغلب الانتقاء، لا الشموليّة، على هذا العرض الذي يبتغي أيضًا، على الرغم من بعضيّته، إيفاء الرجل بعض تجلّياته الغزيرة. وفي عرضنا لا يعني تسلسل الموضوعات تدرّجها من الأكثر أهمّيّة إلى الأقلّ أو بالعكس، بل هو صدفة محض.
١– في اللاهوت عمومًا:
أحبّ المطران جورج اللاهوت، ورأه كاملاً في يسوع المسيح الإله المتجسّد من أجل خلاص الإنسان. لذلك لم تغب هذه الحقيقة عن باله في كلّ مرّة يتناول فيها شأنًا لاهوتيًّا، وبخاصّة في كلّ عيد سيّديّ، إذ يعيد التذكير بالتعليم الأساس للكنيسة القائل: «كلّ ما لم يتّخذه الكلمة المتجسّد لا يمكن أن يخلص». وقد انجذبنا، نحن قرّاءَه، على سبيل المثال لا الحصر، إلى طريقته في تفسير قيامة السيّد من بين الأموات تفسيرًا مبتكرًا، وإلى الكثير من التفسيرات المتعلّقة بالتجلّي وبالنور الإلهيّ والنعمة، وسواها…
كما يسعنا في هذا المقام الإشارة إلى الجهد الذي بذله المطران جورج لتبسيط اللاهوت على صفحات الجرائد، لكي يقرأ فيفهم كلّ قارئ الرسالة المسيحيّة بلغة لا تزعجه فتبعده. وعلى العكس ممّا هو سائد عن صعوبة لغة المطران جورج اللاهوتيّة، تصل إلينا أصداء من كثير من الناس العاديّين المتابعين بشوق مقالاتِه الأسبوعيّة في «النهار» وفي «رعيّتي» على السواء، فيشهدون لتعلمّهم الكثير منها.
٢– في الكتاب المقدّس:
المطران جورج عشيرُ الأنبياء والرسل وكتّاب الأسفار في العهدين العتيق والجديد. صاحبه إشعياء، حبيبه يوحنّا، سميره بولس… لكنّ حزقيال قرينه، إذ لبّى مثله نداء ربّه إليه: «افتح فمَك وكلْ ما أناولك. فرأيت فإذا بيد قد أرسلت إليّ وإذا بدَرجِ كتابٍ فيها» (٢، ٩٨). لذلك، تخرج الآيات من فمه بسهولة فائقة من دون جهد في البحث عنها، فالإناء ينضح بما فيه. هذا بالإضافة إلى أنّ المطران جورج يؤمن بأنّ الإنجيل قابل للتحقيق في حياة كلّ إنسان، فهو ليس نظريّة روحيّة يستحيل على المرء تطبيقها، بل هو نهج حياة وسلوك. فانطلق من تعليم السيّد في الموعظة على الجبل: «أمّا الذي يعمل ويعلّم فهذا يدعى عظيمًا في ملكوت السموات» (متّى ٥، ١٩)، ليسعى العمر كلّه في تنفيذ هاتين الوصيّتين: العمل والتعليم.
أمّا التعليم فيقتضي نهل المعرفة، فاطّلع المطران جورج على أساليب التفسير الكتابيّ ومدارسه المختلفة، وبخاصّة تلك التي تتّبع بصرامة منهج النقد الكتابيّ والتاريخيّ والأدبيّ الحديث. وشجّع طلاّبه، الذين أرسلهم موفدين في بعثات علميّة إلى أوروبا، على الاجتهاد والبراعة في هذه العلوم الكتابيّة الحديثة، من أجل استخدامها في البشارة الكنسيّة، وعدم الاسترسال في نظريّات سفسطائيّة لا تغني ولا تسمن عن جوع المؤمنين، إلى الكلمة مسكوبة لهم بقالب عمليّ ناجع لبنيانهم خير بنيان.
٣– في العلاقات المسكونيّة:
آمن المطران جورج بأهمّيّة الحوار بين المسيحيّين من أجل ترميم الوحدة المنكسرة منذ عشرة قرون. وهو يرى أنّ المشكلة اليوم بين المسيحيّين، وبخاصّة بيننا وبين الكاثوليك، هي مشكلة «كنسيّة» بامتياز. ذلك بأنّ النظرة إلى الكنيسة وهرميّتها تختلف بين الكنيستين، ففيما تخضع الكنيسة الغربيّة كلّها إلى أسقف واحد هو أسقف رومية، تؤكّد الأرثوذكسيّة استقلاليّة الكنيسة المحلّيّة، والمساواة التامّة بين مختلف الأساقفة، والأوّليّة هي بالكرامة والمحبّة لا بالرئاسة المطلقة.
حمل المطران جورج هذه المسلّمة الأرثوذكسيّة الراسخة في تراث الكنيسة، إلى كلّ المحافل والمنتديات التي شارك فيها ممثّلاً كنيسته الأرثوذكسيّة، إن في مجلس الكنائس العالميّ، أو في مجلس كنائس الشرق الأوسط، أو في رومية في لقاءاته مع البابا أو مع أعوانه من مسؤولي «السكرتاريا الدائمة من أجل الوحدة بين المسيحيّين». المطران جورج (خضر) المنفتح على الحوار المسكونيّ لم يساوم على إيمان كنيسته، ولنا في موقفه المسكونيّ (هو الأرثوذكسيّ الذي لا غشّ فيه) أكبر ردٍّ على المشكّكين (من الأرثوذكسيّين) في ولاء العاملين على الصعيد المسكونيّ لكنيستهم الأرثوذكسيّة.
٤– في الحوار المسيحيّ-الإسلاميّ:
لا يحكى عن الحوار المسيحيّ-الإسلاميّ إلاّ وتفرض صورة المطران جورج (خضر) نفسها على المشهد. فكان من أوّل المبادرين في ستّينات القرن المنصرم إلى عقد جلسات حواريّة، في ضيافة «الندوة اللبنانيّة». فكان من محاوريه السيّد موسى الصدر والشيخ صبحي الصالح، وسواهما من الوجوه الثقافيّة الإسلاميّة. والمطران جورج مؤمن بأنّ الحوار على الصعيد اللاهوتيّ لا يمكن أن يتعدّى إطار المعرفة المتبادلة، أي في إطار ما يسمّيه «الإيضاح والاستيضاح» بين المسلمين والمسيحيّين.
غير أنّ أقصى ما توصّل إليه المطران جورج في قراءته للإسلام، نظريّته التي عرضها في محاضرته القيّمة في أديس أبابا (١٩٧١)، تحت عنوان: «المسيحيّة في عالم متعدّد: تدبير الروح القدس»، والتي يمكن تلخيصها بالقول، انطلاقًا من نظريّة «المسيح الكونيّ»، إنّ المسيح حاضر جزئيًّا في الأديان جميعًا، وما على المسيحيّين سوى «إيقاظ المسيح الراقد في ليل الأديان». أمّا اللقاء الإسلاميّ-المسيحيّ فيأتي، عنده، من الحياة إلى الفكر، أي أنّ الحوار الحقيقيّ هو حوار الحياة. لقد شقّ المطران جورج لنا، نحن المؤمنين بجدوى الحوار، الطريق وعبّدها لنسلكها حتّى يعطي الحوار ثمرًا يليق بالروح العامل فينا.
٥– القضايا الوطنيّة:
أن تكون مطرانًا في لبنان، وفي جبل لبنان تحديدًا، يعني أن تكون، شئت أم أبيت، رئيسًا للملّة. إلاّ أنّ المطران جورج حارب الطائفيّة معتبرًا أنّها النقيض المفضوح للكنيسة، إذ تقوم الطائفيّة على حلف اللحم والدم، بينما الكنيسة هي مكان تجلّي عهد اللَّه مع البشر جميعًا. وفي الحرب التي عصفت في لبنان ودمّرته، بقي صوت المطران جورج صارخًا في برّيّة المتقاتلين يناديهم بلغة الإنجيل والوداعة الإنجيليّة، مذكّرًا إيّاهم بأنّهم كلّهم إخوة من حيث إنّهم «أبناء آدم». واللافت على هذا الصعيد، استشهادُه بالقرآن حين حديثه عن قايين وهابيل، إذ يضع القرآن على لسان هابيل كلامًا لاعنفيًّا قلّ نظيره: «لئن بسطت إليّ يدَك لتقتلَني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتُلَك إنّي أخافُ اللَّه ربَّ العالمين» (المائدة، ٢٨).
يدعو المطران جورج المسيحيّين إلى أنّ يعوا أنّهم «ليسوا إزاء المسلمين بل مع المسلمين». لذلك يرى في لبنان، وفلسطين، والعالم العربيّ قضيّة واحدة مشتركة إسلاميّة-مسيحيّة. والقضيّة الفلسطينيّة، أو القضيّة العربيّة عمومًا، ليست، عنده، مجرّد قضيّة العدالة والحقّ فيها ضائعان، بل يعتبرها قضيّةً المحبّةُ فيها غائبة، المحبّة هي الدافع إلى الوقوف في جانب الفلسطينيّين. كما لا يرى المطران جورج داعيًا للوجود المسيحيّ في الشرق، من دون أن يكون هذا الوجود في سبيل الشهادة الحقّ ليسوع المسيح وكنيسته التي افتداها بدمه. العدد ثانويّ، المهمّ أنّ يبقى القطيع الصغير أمينًا على هذه الشهادة.
٦– في الرعاية والأخلاق المسيحيّة:
نشرة «رعيّتي»، بحسب قول المطران جورج، هي أهمّ اختراع قام به خلال أسقفيّته. فبواسطتها تصل البشارة إلى كلّ بيت من بيوت الأبرشيّة. ولم يتوان صاحب «كلمة الراعي»، في زاويته الأسبوعيّة، من تناول كلّ المواضيع التي تخصّ العلاقة بين الراعي، أسقفًا أو كاهنًا، والرعيّة، ومجالس الرعايا. كما حدّد في مواقع عدّة دور المجمع المقدّس والأسقف والكاهن والمؤمنين جميعًا في بناء الجسد الواحد، فشدّد كثيرًا على التكامل بين الخدمة الطقسيّة في الأسرار وخدمة الفقراء. خمس عشرة سنة من عمر «رعيّتي»، ما يوازي ٧٨٠ افتتاحيّة تعليميّة، إلى ازدياد إن شاء اللَّه، هي كنز يبني عليه القادمون من أجل اللياقة وحسن الترتيب في الجسد الواحد.
أمّا بالنسبة إلى الأخلاق المسيحيّة، فتذخر «رعيّتي» و«النهار» التي يبتاعها الكثيرون يوم السبت لقراءة المطران جورج، بالحديث عن كلّ الفضائل والقيم المسيحيّة التي تساهم في بناء الإنسان السويّ والمستقيم في الحياة. فتناول مواضيع عدم محبّة المال، والزواج والطلاق والعائلة، وأخلاقيّات علوم الحياة، والحشمة والعفّة والصبر واللطف… هذه الأخلاق الإنجيليّة جعلها المطران في صلب اهتماماته البشاريّة، فحضّ الناس، كاتبًا وواعظًا، على العيش بمقتضاها حتّى يكسبوا الحياة الحقيقيّة، الحياة في المسيح. ويسعنا هنا أيضًا أن نذكر مساهمته الفاعلة في عودة الروح إلى الحياة الرهبانيّة وتأهيل الأديار في كنيستنا الأنطاكيّة بعد همود دام قرونًا.
– خاتمة:
في الختام، ما قلناه إلى الآن ليس سوى قشّة في بيدر لن تأكله النار، بل ستهبّ الريح وتذرّيه إلى حقول اللَّه في العالم أجمع، فيينع ثمرًا لائقًا يشعل القلوبَ محبّةً باللَّه أبي ربّنا يسوع المسيح وبكنيسته الظافرة.
سيّدنا الحبيب، ننضمّ اليوم إلى الصارخين منذ خمسين لنهتف معهم: «مستحقّ»، مجدّدين الولاء والعهد لمطران مستقيم في الرأي وفي الحياة، بل للكلمة والروح الساكنين فيه، إلى أعوام عديدة.
مجلة النور، العدد الخامس 2005، ص 117-120