الحبّ في الزّواج

الدكتورة نايلة نحاس Wednesday August 1, 2018 1665

تشهد مجتمعاتنا اليوم تكاثرًا في الصّراعات الزوجيّة، التي ينتهي العدد الغير قليل منها بانفصالات أو طلاقات، يقع عبؤها في أكثر الأحيان على الأولاد، فيصحّ المثل القائل ”الأهل يأكلون الحُصرم والأولاد يضرَسون“. أمام هذا الواقع الأليم، تكثر في مجتمعنا عامّة الخطابات ”التبسيطيّة“ التي تلوم المرأة على هذه الخلافات فتسمع من يقول: ”إنّ انخراط المرأة في العمل يجعلُها تهمل منزلها“، أو ”إنّ عمل المرأة حرّرها من الحاجة إلى رجلٍ يُطعمها، فأضحت قادرةً على الاستغناء عنه وعن ماله“، أو ”إنّ عمل المرأة يجعلها تلتقي برجالٍ غير زوجها فتقع بالتّجربة“، إلخ… وتنسى هذه الخطابات أنّ المرأة والرّجل على حدّ سواء هما ولدَي عصرٍ ينادي بالفرديّة ويصعب فيه الالتزام.

ففي منطق النُّظم الرأسماليّة الاستهلاكيّة المهَيمنة على مجتمعاتنا اليوم، يشكّل الزواج عَقدًا بين شخصَين حرَّين، حدودُه رغبات ومصالح كلّ من الطرفَين. قد تكون هذه المصالح اقتصاديّة، كالزّواج من رجلٍ غنيّ أو من امرأة ثريّة، أو اجتماعيّة كالزّواج من شخصٍ من عائلة مرموقة أو الزواج بهدف الإنجاب، أم جنسيّة كالزواج بهدف تشريع العلاقة الجنسيّة أو الزواج المرتكز على الإثارة. ويخضع الزواج هنا للمنطق الفرديّ الاستهلاكيّ حيث يُضحي المرء سلعةً لمتعة الآخر، ويكون معيارُ نجاحه السعادة الآنيّة. ينجح الزّواج عندها ويستمرّ ما دامت المصالح الفرديّة ملتقيةً، ويفشل عند أيّ ظرف يبدّل في معادلة التقاء هذه المصالح. فتكثر الانفصالات لأسباب مثل: “لم أعد أحبّها”، “تزوّجتُه غنيًّا وأضحى فقيرًا”، “لم تعُد جميلة”، “التقيت بشخص آخر أثارني أكثر”، “أتعبني ضجيج الأولاد وثقل المسؤوليّة”…وتشهد مجتمعاتنا اليوم الكثير من الزواجات التي تندرج تحت هذا النمط ولا تدوم.

تختصر هذه النُّظم الحبّ في الزواج بالانجذاب الجنسيّ وباختلاجات القلب العاطفيّة البيولوجيّة البحتة التي يتوهّمها الشريكَين عندما يقرّران أن يتزوّجا. إلّا أنّ هكذا حبّ لا يلبّي إلا حاجة العاشق وسرعان ما ينكسر تحت نير المسؤولية ورتابة اليوميّات!

فأي حبّ يدوم؟

الحبّ المتأصّل في المحبّة، كينونة تتكامل فيه عناصر ثلاث من انجذاب وتوافق جنسيّ – بيولوجيّ، واستلطاف عاطفيّ وتوافق عقليّ في آن، بحيث تتكامل فيه هذه العناصر وتغذّي بعضها البعض وإن غاب أحدُها بات الحبّ بخطر.

فالحبّ بيولوجيّ لأنّ العاطفة تتأصّل في العوامل البيولوجيّة وتعبّر عن ذاتها في ظواهر بيوكيمائيّة من دقّات قلب وانجذاب جنسيّ وغيرها…

هو عاطفيّ لأنّ الحبّ يترافق دومًا مع مشاعر متفرّقة من السعادة عند لقاء الحبيب والألم من فراقه والحزن على حزنه وأوجاعه والفرح لفرحه وألخ…

والحبّ عقليّ أيضًا، لأنّ كلًّا من الحبيبَين يكونان، نتيجة تاريخهما الشخصيّ، نموذجًا ذهنيًّا للمرأة أو الرّجل مرفقًا بالأدوارالمتوقّعة لكلّ منهما، فلا يحصل الإعجاب أو الانجذاب إذا لم يكن هناك توافق بين النموذج الذهنيّ وحال المحبوب.  ويتكوّن هذا النموذج عادةً عند الأشخاص نتيجة تعقيل (mentalisation) وتجمّع في الذاكرة، ومنذ الطفولة، لمعيوشات مرتبطة بالعلاقة بذاك وتلك من الناس الذين يحتلون مكانة جوهرية في حياة الشخص كالأم، الأب، الإخوة، المعلّمين، الرّفاق وغيرهم.

عندما يتمّ اللّقاء مع المحبوب، بخاصّة عندما يُطرح مشروع الزواج، تلعب هذه المعيوشات والنماذج الذهنيّة الناتجة عنها دورًا أساسيًّا في قراءة المحبوب في تصرّفاته وفي الأدوار المتوقَعة منه. فإذا لم تتوافق هذه القراءة مع حقيقة المحبوب، وإذا لم يع كلّ من الأشخاص الدور الذي تلعبه ذاكرةُ كلّ منهما في قراءة الآخر، وإذا لم يخلُ كلّ من المتحابين نفسه من سيطرة هذه الذاكرة حتي يلاقي المحبوب في حقيقته، يفشل مشروع الحبّ، وكثيرًا ما يحصل ذلك بعد الزواج.

ففي هذا المنطق يُضحي الحبّ في الزواج رغبة مستمرّة لاكتشاف المحبوب ولقائه وقبوله على حقيقته. فلا يدوم الحبّ إلّا إذا وعى كلّ من المتحابين تأثير تاريخه الشخصي على فهم الآخر وقرّر إفراغ ذاته من هيمنة توقّعاته حتى يلاقي الآخر ويرعاه. ولا يكون حبًّا ولا يدوم إلّا إذا قَبِل كلّ من المحبوبَين الكشف عن حقيقته للآخر في ظلّ شفافيّة مطلقة. شفافيّة في ما يختصّ بالحالة الاجتماعيّة والاقتصاديّة المالية، شفافيّة في ما يختصّ بالتاريخ العائليّ والشخصيّ، شفافيّة في الآراء والأحاسيس، شفافيّة في التطلّع نحو المستقبل.

 

ويهدف الزّواج من منطلق المحبّة هذا، إلى سعي كلّ من الشّريكين إلى التّعاون على خلق الأجواء المؤاتية إلى نموّ الآخر وتقدّمه. ويأتمن كلّ من الشريكين الآخر على نفسه ويؤمّن له في علاقة من الثقة المتبادلة حيث تتوازن تلبية حاجات الآخر مع تلبية الحاجات الشخصيّة لكلّ من الشريكَين.  يرتبط نجاح الزّواج وديمومته عندها، بنجاح الشريكَين في خلق وَحدة جديدة مستقلّة في المال والفكر عن الجماعة التي انبثقت منها ولكن مرتبطة بها، تتغذّى من حكمتها وتدعمها، ولكن تنمو في حرّية تكوين نسَق جديد في الحياة يناسب كلّ من الشريكَين. وتقع المسؤولية في ذلك على كلّ من الشريكَين وعلى وعيهما للعناصر الاجتماعيّة والاقتصاديّة والشخصيّة التي تؤثّر على اختياره للشريك وعلى عمله لإنجاح زواجه.

58 Shares
58 Shares
Tweet
Share58