أكّدت نتائج الانتخابات النيابيّة ما هو غنيّ عن البيان وواضح كنور الشمس في شهر حزيران. ما أفرزته الصناديق يعبّر عن حقيقة الانشطار العاموديّ بين اللبنانيّين. فالناخبون تعاملوا مع هذا الاستحقاق بصفتهم طوائف متنابذة ومذاهب متراصّة، لا انطلاقًا من كونهم مواطنين. الكيد المذهبيّ هو السيّد المطلق، والاستقطاب الطائفيّ كان فعله كفعل المغناطيس يجذب كلّ مَن كان قيده مندرجًا في خانة هذا المذهب أو ذاك.
أفرزت الانتخابات كتلاً طائفيّة صمّاء لا يمكن اختراقها ولا زعزعتها. وهذا الفرز يزداد استفحالاً يومًا بعد يوم، ويزداد تورّمًا بحيث يعصى على الاستئصال. وفي الآن الحاضر ليس ثمّة حالة جامعة تستطيع إحداث كوّة في هذا الجدار، وليس ثمّة حالة عابرة للطوائف يمكن أن نستمدّ منها الأمل بإحداث هذه الكوّة بعد سنوات من الوقت الراهن. وهذه الكتل المرصوفة بعضها بوجه بعض لن يفكّ أسرها مَن ينتهز أقلّ مناسبة كي يشدّ عصبها. وهؤلاء المنتهزون كثيرون، ومنهم السياسيّون، وهذا طبيعيّ إذ يكمن عمل السياسيّ في تغذية ما يعزّز شعبيّته، ومنهم رجال الدين، وهذا غير طبيعيّ لأنّه يتنافى مع سماحة الدين وانفتاحه على غير المنتمين إليه.
أمّا الظاهرة الجديدة التي ما فتئت تلاقي أرضًا خصبة لدى كلّ مَن يفشل في الانتخابات فهي البحث عن الشرعيّة الطائفيّة لممثّلي الطائفة من الناجحين. فهذا فاز بغير أصوات طائفته وذاك خسر على الرغم من حيازته أكثريّة أصوات طائفته. وتزداد الأمور سوءًا عندما ترجّح أصوات أقلّيّة طائفيّة فوز أحدهم من غير هذه الأقلّيّات أو خسارته. وإذا رصدنا بعض ردّات الفعل على أحوال كهذه نجد أنّ المعترضين يريدون أن يتمّ التعامل مع الأقلّيّات الطائفيّة في كلّ قضاء من أقضية لبنان بحسب أنظومة “أهل الذمّة”، أو بعد استلهام أنظومة التمييز العنصريّ وممارستها على الصعيد الطائفيّ.
المواطن اللبنانيّ، بما تعنيه في العمق هذه العبارة، هو الغائب الأكبر عن الانتخابات ترشّحًا واقتراعًا. فقانون الانتخابات يحرم أبناء بعض الطوائف من الترشّح في الأقضية التي ينتمون إليها، وإذا مارسوا حقّهم الانتخابيّ يتّهمهم الخاسرون بأنّهم مَن رجّحوا فوز خصومهم، بينما هم حازوا على نسبة الاقتراع الأعلى عند أبناء طائفتهم. وكأنّ النائب المنتخب لا يمثّل الأمّة ولا يمثّل حتّى أبناء القضاء، بل يمثّل طائفته وحسب. قانون أعوج يدينه انتخاب على أساس طائفيّ، وتدينه نتيجة تفاقم العلّة ولا تزيل الغمّ.
طالما الانتخابات طائفيّة فلا بدّ لرجال الدين من حصّة في هذه الكرنفاليّات الفالتة من عقالها. وقد أمّن بعض هؤلاء الدعم “الروحيّ” والمعنويّ لبعض اللوائح والمرشّحين ودعا المؤمنين من منابر الوعظ لانتخابهم، وظهر بعضهم الآخر في مهرجانات إعلان اللوائح أو في التجمّعات الانتخابيّة، وأعلن بعضهم جهارًا عن أبوّتهم لبعض المرشّحين منكرين أبوّتهم للبعض الآخر، ومارس البعض منهم سياسة التخويف من الطوائف الأخرى ممّا ساهم في دعم موقف فريق من الطائفة على فريق آخر. وكان نشاط بعض رجال الدين واضحًا في الماكينات الانتخابيّة حتّى كادوا يبزّون الحزبيّين بحماستهم واندفاعهم في سبيل إنجاح مرشّحهم المحبوب. هذا كلّه أفقد رجال الدين بعض قيمتهم ومكانتهم لدى أتباعهم المتنوّعين، بصرف النظر عمّن دعموا أم ناهضوا من المرشّحين.
هذه الانتخابات كرّست واقعًا مريرًا. أحاديّات مذهبيّة حادّة لدى الطوائف الإسلاميّة ربّما اشتهاها بعض المسيحيّين نموذجًا يحتذى عندهم. غير أنّ الوضع المسيحيّ وإن بدا في الظاهر متنوّعًا ليس صحّيًّا أكثر ممّا لدى المسلمين. فالأسئلة الأساسيّة لدى المسيحيّين التي على الجواب عنها تمّ الاختيار بين الطرفين المتنازعين تتمحور حول مَن هو الأكثر قدرة على استعادة حقوق المسيحيّين في الدولة، ومَن الأكثر قدرة على حماية المسيحيّين، ومَن هو الأشدّ خطرًا من المسلمين على المسيحيّين. هذا ما أفرزته الانتخابات، جدار عازل بين الطوائف أين منه الجدار العازل في فلسطين.
الأب جورج مسّوح
“النهار”، 14 حزيران 2009