استحوذ موضوع نهاية العالم في الآونة الأخيرة على معتقدات بعض الشيع والفرق الدينيّة المتفرّعة من الديانات كلّها. فانتشرت الكتب التي تتحدّث، بالاستناد إلى الأسفار المقدّسة، عن تحقّق العلامات أو الشروط اللازمة التي تعجّل في مجيء المخلّص. وغالبيّة هذه المعتقدات تنطلق من مبدأ استعمال الدين أو استغلاله في خدمة السياسة والحروب للهيمنة على مصادر المال والاقتصاد العالميّ. أمّا مؤدّى هذه المعتقدات فإلهاء الناس بالخوف من آخرة رهيبة تقترب يومًا بعد يوم يسودون فيها على باقي الأمم، فيما ينصرف مروّجو هذه المعتقدات إلى الاستفادة من خيرات هذه الدنيا.
تتعدّد الروايات، في الديانات كلّها، في شأن العلامات التي تسبق نهاية الدنيا. وإن اختلفت هذه الديانات في بعض العلامات، إلاّ أنّها تتّفق، في معظمها، على موضوع الكوارث الطبيعيّة والويلات والحروب. لكنّ هذه العلامات نجدها في كلّ زمان ومكان منذ خلق العالم، الحروب والمجاعات والأوبئة والزلازل والفيضانات… ولا ننسى أنّ أوّلى الحروب الكونيّة قد حدثت حين قتل قايين أخاه هابيل، نصف الدنيا قتل نصفها الآخر! والأوبئة من الطاعون إلى الإنفلونزا الإسبانيّة إلى السيدا وإنفلونزا الخنازير، والكوارث الطبيعيّة من فيضان نوح إلى التسونامي الأندونيسيّة. لكلّ جيل حروبه وأوبئته وكوارثه الطبيعيّة. لذلك هذه العلامات تخدم تنبيه المؤمنين إلى الصلاح والتوبة، وليست قطعًا لإعلامهم بأوان انقضاء الزمان.
في هذا الإطار يندرج اهتمام الحركات الأصوليّة المسيحيّة بموضوع نهاية الزمان، وبخاصّة لدى الحركات التي تدعم إنشاء دولة إسرائيل وهجرة يهود العالم كافّة إليها. ففي اعتقادها أنّ عودة هؤلاء اليهود إلى أراضي فلسطين سوف تعجّل بمجيء المسيح. يا لسخافة هذا الاعتقاد، إذ يجعل من الظلم والعدوان المرتكبين بحقّ الشعب الفلسطينيّ عنوانًا لأسمى انتظار يرجو المسيحيّون تحقّقه في أقرب زمان ممكن. وعلى العكس ممّا يعتقده هؤلاء الأصوليّون، يدعو المسيح أتباعه إلى العمل بمشيئته التي هي الخير، إلى حين اكتمال الزمان الذي لا يمكن أحدًا أن يعرف متى سيحصل، “اسهروا إذًا لأنّكم لا تعلمون في أيّة ساعة يأتي ربّكم. فكونوا مستعدّين لأنّه في ساعة لا تظنّون يأتي ابن الإنسان” (متّى 24، 42-44).
وثمّة كتاب آخر يلجأ إليه بعض الأصوليّين المسيحيّين للحديث عن نهاية العالم هو سفر رؤيا يوحنّا. والخطأ الذي يقع فيه هؤلاء يكمن في قرائتهم الحرفيّة لهذا السفر. فالأدب الرؤيوي ليس أدبًا نبويًّا، بمعنى أنّه يتحدّث عن أمور ستحدّث لاحقًا، بل هو أدب رمزيّ يتحدّث عن وقائع معاصرة شاهدها الكاتب ودوّنها بأسلوب بعيد عن المباشرة. لذلك، حين يتحدّث كاتب الرؤيا عن الوحش الذي عدده ستّمائة وستّة وستّون (رؤيا 13، 18) إنّما يقصد نيرون الملك الذي حدثت في عصره أشنع الاضطهادات ضدّ المسيحيّين. فإذا أخذنا بحساب الأبجديّة المعروف بالجمّل أيضًا يتراءى لنا أن عبارة “القيصر نيرون” بالعبرانيّة تساوي ستّمائة وستّة وستّون. قصد الكاتب، إذًا، ليس الكلام عن منتهى الدهر، بل الحديث عن الحاكم الذي يصبح وحشًا عندما يمارس الاضطهاد والتعذيب بحقّ شعبه. كتاب الرؤيا هو كتاب تعزية للمسيحيّين كي يواجهوا استشهادهم بشجاعة فينالون الحياة الأبديّة بقرب المسيح الحمل الذبيح من أجل حياة العالم.
لكلّ عصر نيرونه. وفي عصرنا شاهدنا قادة الدول العظمى ينسبون جرائمهم وتعدّياتهم على شعوب الأرض إلى السماء وإلى المسيح المولودين منه جديدًا. والشعوب المستضعَفة، وبخاصة الفلسطينيّون، ينطبق عليهم قول المسيح: “تأتي ساعة فيها يظنّ كلّ مَن يقتلكم أنّه يقدّم خدمةً لله” (يوحنّا 16، 2). ما أفظع الظلم حين يقترن بتشويه القصد الإلهيّ. ففيما يدعو المسيح تلاميذه إلى التوبة وبذل الذات حبًّا مجّانيًّا بالآخر، وإلى التهيّؤ لدخول الملكوت والعيش معه إلى الأبد، نجد ذوي النظريات الأصوليّة وأتباعهم يشوّهون هذه التعاليم في سبيل غايات سياسيّة دنيئة.
كلّنا يصلّي من أجل أن يحكم الله في الأرض، اليوم قبل الغد. لكنّنا لا نقبل بمَن يزعم أنّه يحكم باسم الله في الأرض. تحرير الله من أسر هؤلاء المجانين هو محجّتنا إلى تمام الأوقات.
الأب جورج مسّوح
“النهار”، 20 أيلول 2009