لم يعترض أحد من أولي أمر الأرثوذكس في لبنان ضدّ تعيين موعد الانتخابات يوم عيد العنصرة بحسب تقويمهم الشرقيّ. ولا ندري إن كانت سائر الطوائف لتقبل بوداعة وصمت أن تجرى الانتخابات في ذكرى أحد أعيادها الكبرى. والعنصرة هي العيد الذي تحتفل فيه الكنيسة بحلول الروح القدس، الروح الإلهيّ، على التلاميذ قبل بدئهم بالدعوة. فربّما أراد أولو أمر الأرثوذكس أن تحلّ بركات هذا العيد على اللبنانيّين يوم انتخاباتهم فيختاروا مَن يرونه الأكثر نفعًا لهم ولوطنهم، فلم يسجّلوا أيّ اعتراض.
ثمّة أمر هامّ ذو دلالات عميقة قد حدث يوم العنصرة، وهو أنّ التلاميذ، وهم الأمّيّون، قد نطقوا بلغات عديدة. وكان كلّ عابر، إلى أيّ قوم أو بلد انتمى، يسمعهم يتكلّمون بلغة بلده. وقد رأى بعض المفسّرين في ما جرى يوم العنصرة نقيضًا صارخًا لما جرى في بابل. ففي بابل، تقول الرواية الكتابيّة، شرع “أهل الأرض” ببناء برج رأسه إلى السماء، فبدّدهم الربّ وبلبل لغتهم “حتّى لا يفهم بعضهم لغةَ بعض”، ولذلك سمّيت تلك المدينة “بابل”. صحيح أنّ النصّ الكتابيّ يغفل ذكر السبب الذي دفع الربّ إلى تشتيت أهل بابل وبلبلة ألسنتهم، إلاّ أنّ التفسير السائد يقول إنّ ذلك كان بسبب كبرياء الإنسان وظنّه أنّه يمكنه التصرّف كالإله.
أمّا في العنصرة، وبدلاً من البلبال الذي سبّبته الكبرياء البابليّة، فبتنا نرى الإنسان يفهم على أخيه الإنسان، حتّى ولو لم يكونا ينطقان بلغة واحدة. لا تكمن مسألة الفهم المتبادل في التحادث أو التحاور بلغة واحدة تخضع لشروط الصرف والنحو، بل تكمن أصلاً في انفتاح القلب على القلب. اللغة هي لغة القلب، والفهم يبدأ بتقبّل القلب لنعم الله النازلة من السماء، وهذا يفترض تواضعًا كبيرًا. إمّا أن يكون الفهم في القلب وإمّا لا يكون.
اللبنانيّون يتكلّمون اللغة نفسها، ويستعملون الألفاظ ذاتها، ولا يفهم الواحد منهم على الآخر. هم يحيون في بابل متجدّدة عوض أن تهرم تزداد شبابًا وعنفوانًا. بابل أديان، بابل طوائف، بابل مذاهب، بابل عائلات، بابل خدمات، بابل شعارات، بابل قضايا كبرى. واليوم بابل انتخابات لا يعدم فيها المرشّحون في سبيل نجاحهم استعمال أيّ لغة، لغة التخوين، لغة التحقير، لغة الكذب، لغة التسخيف والتسفيه. أضحت البذاءة هي اللغة المفضّلة والمبرّزة على سواها من اللغات. صار لبنان على صغره جغرافيًّا بابل عظمى تفوق أيّ بابل عبرت في التاريخ القديم.
هو بابل لأنّ كلاًّ من الزعماء والقادة يبني برجًا إلى السماء، إذ يظنّون أنفسهم آلهة لا يليق بها السكن في الأرض. هو بابل يستعبد فيها الزعماء أبناء قومهم وطائفتهم ويسخّرونهم كي يبنوا لهم أبراجهم التي لن يطلّوا من نوافذها لرؤية الفقراء والمحتاجين الذين عمّروها بأصواتهم الانتخابيّة، فالآلهة تلتهي بشهواتها، ولا تهتمّ البتّة بقضايا الناس وحاجاتهم. فمتى سيصنع اللبنانيّون عنصرتهم الخاصّة؟ متى الانتقال من عصر بابل إلى عصر العنصرة؟ متى الانتقال من صمّ الآذان والقلوب إلى التفهّم والإدراك؟
لا يبدو في الأفق القريب أنّ اللبنانيّين يعملون من أجل هذا التحوّل في القلوب والأذهان. فجذور عللهم تتأصّل وتزداد انغراسًا في نفوسهم، وعوض أن يعضدوا بعضهم بعضًا لاجتثاث هذه الجذور نراهم يروونها بكلّ ما يملكونه من مقدّرات وملكات فطريّة ومكتسبة. فالطائفيّة برج يزداد عصيانًا على الهدم، والمذهبيّة كذلك، والزبائنيّة والمحسوبيّات والعائليّات. متى سيستلهم اللبنانيّون في تعاملهم بعضهم مع بعض روح الله ومبادئهم الدينيّة التي تدعوهم إلى الكلمة السواء والموعظة الحسنة؟ متى سيصغون بسكينة إلى روح الله يناديهم إلى المحبّة والرفق وإلى هدم جدار العداوة القائم بين جماعاتهم؟ متى سيقبل اللبنانيّون هدي الله ورشده لينطقوا بلغته لا بلغاتهم؟
الأب جورج مسّوح
“النهار”، 7 حزيران 2009