تأتي الذكرى الرابعة والثلاثون لاندلاع الحروب المتتالية في لبنان ونحن لسنا مطمئنّين إلى مستقبلنا ومستقبل أجيالنا الصاعدة. الثالث عشر من نيسان لم ينتهِ بعد، لم تغرب شمسه بعد، إذ إنّ كلّ يوم جديد يطلّ علينا يعدنا ببدايات حروب جديدة. لم تهدأ حربٌ إلاّ كي تبدأ أخرى. أما لهذا المصير الحتميّ من نهاية؟
كتاب ريجينا صنيفر “ألقيتُ السلاح، امرأة في خضمّ الحرب اللبنانيّة” (دار الفارابي) ردّ إليّ الأمل وزوّدني بالرجاء القائل أنّ لا مصير حتميًّا إن تغيّرت وتبدلّت إرادات الناس. والكتاب ينقل شهادات حيّة عاشتها صنيفر منذ اندلاع الحرب، وكان عمرها آنذاك ثلاثة عشر عامًا، إلى حين انتسابها إلى إحدى الميليشيات المسيحيّة وانتهاءً بتوبتها وخروجها الكامل من منطق الميليشيات إلى رحاب المسيحيّة الحقّ والإنسانيّة الشاملة.
تتواكب الشهادة الشخصيّة في هذا الكتاب مع عرض مقتضب لأهمّ الأحداث التي شهدها لبنان إبّان الحرب الأهليّة إلى عام 1986 حين غادرت المؤلّفة لبنان لتستقرّ في فرنسا. وأهمّ تلك الأحداث هي ما تلا الاحتلال الإسرائيليّ لبيروت عام 1982 ومقتل الرئيس المنتخب آنذاك الشيخ بشير الجميّل وحروب الجبل. وتروي الكاتبة بالوقائع “حروب الإلغاءات” التي تناحر فيها الإخوة الأعداء على السلطة، ما جعلها تقرّر مغادرة ميليشياها.
شهادة ريجينا صنيفر تبدو صادقة جدًّا. فثمّة أشخاص لم يدفعهم الحقد أو الطائفيّة أو العنصريّة العمياء إلى الانخراط في الميليشيات المتقاتلة، بل دفعهم الحبّ والإيمان والصدق دفاعًا عن قضيّة عليا أو مسألة وطنيّة كبرى. غير أنّهم وجدوا أنفسهم في مستنقع مليء بالوصوليّين والماكرين والساعين إلى القبض على السلطة بأيّ ثمن. ونترك ريجينا تتساءل بعد معاينتها للفظائع التي تُرتكب في السجون بحقّ رفاق كانوا مع سجّانيهم يقاتلون في خندق واحد ضدّ عدوّ مشترك: “ألسنا بصدد الإلقاء بمصيرنا بين أيدي حفنة من الوصوليّين الذين يدّعون الكلام والعمل باسمنا؟ إلى ماذا آلت إليه قيم المسيح، في المسيحيّة التي ننبري للدفاع عنها؟ فنحن استولينا على صليبه لنحوّله إلى صليب من حديد، إلى خنجر” (ص 209).
هذا النقد الذاتيّ الذي أجرته الكاتبة على انتمائها الميليشياويّ نرجو أن يلاقيه نقد ذاتيّ يأتي من مكان آخر مغاير. فلا يمكن إدانة ميليشيا وتبرئة أخرى، كما لا يمكن تبرئة إحداها بحجّة عدم إدانة الأخرى. وإدانة الميليشيات لا تعني البتّة إدانة أفرادها، إلاّ مَن ارتكب فعل التعذيب والقتل المجّانيّين. قارئ ريجنيا صنيفر يشاركها كرهها للإيديولوجيّات وغسل الدماغ وتخويف الناس من جيرانهم، ويشاركها كرهها للذهنيّة الكامنة وراء الميليشيّات وللوصوليّين الذين يستغلّونها. وفي الوقت عينه يشاركها حبّها لهؤلاء الذين “ضحّوا أم ضُحّي بهم” من رفاقها.
وتظهر “مسيحيّة” ريجينا في تضاعيف الكتاب كلّه، ولا سيّما في عبارة محوريّة هي “لقد فسّرنا الإنجيل بما يتلاءم مع قناعاتنا. واستطعنا أن نجعل من المسيح ناطقًا باسمنا” (ص 209). هنا توصيف ممتاز لحال المسيحيّين مع مسيحيّتهم ومسيحهم. فبدلاً من أن يقرأ المسيحيّ الإنجيل ليستخرج منه ما يفرضه الإنجيل من تعاليم وفضائل وتوجّهات، يذهب المسيحيّ إلى الإنجيل وفي باله فكرة معيّنة يريد أن يؤكّدها فينتقي من الإنجيل ما يناسب فكرته ويهمل الباقي الذي إن أخذ به يمكن أن يؤدّي إلى عكس ما يريده في الأساس. وهكذا تصبح الميليشيا “مسيحيّة” وقائدها “مدافعًا عن المسيحيّة والمسيحيّين”، والتصرّفات غير المسيحيّة “مسيحيّة بامتياز”. تتحوّل المسيحيّة إلى صفة خارجيّة من دون أيّ مضمون دينيّ أو أخلاقيّ.
توبة ريجينا صنيفر تصفع كلّ مَن لا يزال إلى اليوم يحاول إيجاد التبريرات تلو التبريرات للفظائع التي جرّتها الحروب غير المنقطعة علينا جميعًا. توبتها حقيقيّة لأنّها ناتجة عن فعل ندامة على تصديقها القادة والزعماء الإيديولوجيّين الذين عبّأوا اللبنانيّين طائفيًّا كي يركنوا إلى سلطتهم المطلقة. “ألقيت السلاح” صرخة نابعة من ألم وجدانيّ كبير، صرخةٌ شفت صاحبتها. فعسى أن نشفى جميعًا.
الأب جورج مسّوح
“النهار”، 12 نيسان 2009