كان السيّد المسيح داعية سلام. كان يؤمن بقدرة الإنسان على تحقيق السلام “الآن وهنا” في العالم الراهن لكلّ جيل من الأجيال التي توالت منذ أيّامه على الأرض إلى يومنا الحاضر. لكنّ جميع الأجيال فشلت في بسط السلام على أرجاء المعمورة كافّة. وما زالت الدنيا تشهد صراعات ونزاعات وحروبًا وما ينتج عنها من احتلالات ومجازر وارتكابات وتهجير وتطهير عرقيّ.
في الواقع، تؤدّي الديانات في هذا السياق دورًا معاكسًا لما هو مرسوم لها من مؤسّسيها. فالمؤسّسات المسيحيّة خالفت الوصية الإلهيّة في هذا الشأن مرارًا وتكرارًا حين باركت المحاربين وحضّتهم على القتال والغزو والسبي والنهب والسلب. والأسوأ من ذلك هو حين تكون تلك الحروب حروبًا أهليّة يتقاتل فيها أبناء الوطن الواحد وجيران الشارع الواحد.
لم يكن المسيح داعية عدالة بالقدر ذاته الذي كان فيه داعية سلام. فلو كان داعية عدالة وحسب هل كان ليقول في موعظته الشهيرة على الجبل: “سمعتم أنّه قيل: عين بعين وسنّ بسنّ. أمّا أنا فأقول لكم: لا تقاوموا مَن يسيء إليكم. مَن لطمك على خدك الأيمن، فحوّل له الآخر. ومَن أراد أن يخاصمك ليأخذ ثوبك، فاترك له رداءك أيضًا. ومَن سخّرك لتمشي معه ميلاً واحدًا، فامشِ معه ميلين” (متّى 5، 38-41). وهل كان ليقول: “أحبّوا أعداءكم، وصلّوا لأجل الذين يضطهدونكم” (متّى 5، 44).
طبعًا نحن نقصد، في إيرادنا هذه الأقوال هنا، العلاقة بين الإخوة في البيت الواحد أو بين أفراد الوطن الواحد. فالمسيح، حين سأله أحدهم أن يقول لأخيه أن يقاسمه الميراث، أجابه: “يا رجل، مَن أقامني عليكما قاضيًا أو مقسّمًا؟” (لوقا 12، 14). رفض المسيح أن يكون قاضيًا أرضيًّا يهتمّ بشؤون هذه الدنيا وترابها. أدرك المسيح أنّ العدالة البشريّة سراب ووهم وقبض ريح. ما أراده في الحقيقة هو السلام بين الإخوة ولو على حساب العدالة والإنصاف فيما بينهم.
بيد أنّ المسيح طالب الإخوة بالاهتمام بعضهم بشؤون بعض. فإنصاف الفقراء والمساكين والمعوزين واليتامى والمعذَبين هو في صلب رسالته. وهذا يقوم ليس على التماس العدالة، بل على المحبّة والسلام والعطاء المجّانيّ. فأين اهتمامات المؤسّسات الكنسيّة من كلّ هؤلاء؟ وفي الوقت الذي تكاد فيه بلادنا أن تستنزفها الهجرة المتمادية بسبب الحروب والاحتلالات نرى بعضهم يستبعدون خيار السلام والاستقرار من أجل قضيّة عادلة بلا شكّ. لكن هل تستأهل هذه القضيّة فتنةً تحوّل الوجود المسيحيّ إلى رماد هامد؟
لم يصمت المسيح حين تعرّض للضرب على يد أحد حرّاس حنّان رئيس الكهنة، فقال له: “إن كنت أخطأت في الكلام، فقل لي أين الخطأ؟ وإن كنتُ أصبتُ، فلماذا تضربني؟” (يوحنّا 18، 23). دافع المسيح عن نفسه واستفسر عن سبب خضوعه للضرب. لكنّه كابد الآلام وحده، ولم يعرّض سواه للخطر بسبب مواقفه. هو أفتدى الناس جميعًا إذ قبل أن يموت من أجلهم، لا أن يموتوا من أجله أو من أجل قضيّته.
هكذا أيضًا كان القدّيس يوحنّا المعمدان مدركًا مصيره حين صدع بالحقّ في وجه هيرودس الذي خالف الشريعة. أدرك يوحنّا أنّه سيموت إن استمرّ في توبيخ هيرودس. مع ذلك لم يستسلم يوحنّا مصمّمًا على تذكير هيرودس بمقتضيات الناموس وتعاليم الأنبياء، إلى أن قطع هيرودس رأس يوحنّا وقدّمه على طبق هديّةً للزواني والغواني.
يوحنّا كلّفته مواقفه ثمنًا باهظًا. حياته كانت الثمن. لم تكن حياة سواه هي الثمن. لم يكن ليرضى أن يدفع سواه الثمن. افتدى كلمة الحقّ برأسه ودمه، وليس برأس إنسان آخر. لم يغامر برؤوس الآخرين وأرواحهم، أو بأرواح نسائهم وأطفالهم وشبابهم وعجائزهم، أو ببيوتهم وأرزاقهم ووجودهم. واجه الغضب الحاكم برأسه العاري إلاّ من غلالة الطهر والعفاف. واجه الغضب الآتي وحده متسلّحًا بإيمانه الذي لا يزعزعه خوف ولا شدّة.
فمَن أراد أن يجاهد إلى المنتهى بسبب قضيّة يؤمن بها، فليكن كالمسيح أو يوحنّا المعمدان راضيًا أن يستشهد من أجل قضيّته السامية، لا أن يغامر بشعب لا ناقة له ولا جمل في ما سيحدث من أخبار تتداولها الأجيال القادمة كما نتداول نحن أخبار ما سبقنا من أهوال التاريخ ومآسيه.
الأب جورج مسّوح
“النهار”، 21 تشرين الثاني 2010