يعمد مشير باسيل عون في كتابه “بين الابن والخليفة، الإنسان في تصوّرات المسيحيّة والإسلام” (المكتبة البولُسيّة، 2010) إلى بحث مسألة شاقّة في ميدان مقارنة الأديان، وهي مكانة الإنسان ودوره في الديانتين المسيحيّة والإسلاميّة. وينتهج الكاتب في مؤلّفه هذا سبيل الإضاءة على نقاط التلاقي والافتراق بين المسيحيّة والإسلام بأمانة علميّة ومعرفة عميقة بأصول الديانتين قلّ نظيرهما في غالبية ما يُنشر باللغة العربيّة تحت عنوان مقارنة الأديان.
انطلاقًا من صورة “الإنسان ابن الله” في الكتاب المقدّس وصورة “الإنسان خليفة الله في الأرض” في القرآن يبني مشير عون أطروحته الأنتروبولوجيّة المقارنة بين المسيحيّة والإسلام. فيجد أنّ اللاهوت المسيحيّ يقوم على تصوّر الإنسان “في هيئة الابن الوارث المشارك في الطبيعة الإلهيّة”، بينما يقوم اللاهوت الإسلاميّ على تصوّر الإنسان “في هيئة المستخلَف الساكن في عبوديّته المطلقة للعزّة الإلهيّة”. وهذان التصوّران يقومان أساسًا على تأكيد كرامة الإنسان المتأصلّة في الجود الإلهيّ.
في هذه المقابلة بين اللاهوتين المسيحيّ والإسلاميّ يتابع المؤلّف مقارنته بين الرؤية المسيحيّة للإنسان والرؤية الإسلاميّة له، فيعتبر أنّ هويّة الابن الوارث، في المسيحيّة، تنطوي على مقدار عظيم من الحرّية الموهوبة، بينما هويّة الخليفة المدبّر، في الإسلام، تنطوي على مقدار عظيم من المسؤوليّة”. ويصل عون إلى الاستنتاج أنّ “المجتمع الغربي المتأثّر بالتصوّر الأنتروبولوجيّ المسيحيّ هو مجتمع الإرادة الحرّة التي لا تريد الخضوع إلاّ لذاتها، فيما المجتمع الإسلاميّ القديم والحديث هو مجتمع الطاعة لشريعة منبثقة من الحقّ الإلهيّ”.
وينتقل مشير عون في إطروحته إلى مستوى آخر وهو المقارنة بين مقولة الحقّ في الإسلام ومقولة الحرّيّة في المسيحيّة، فيرى أنّ كلتا المقولتين متلاحمتان متكاملتان، غير أنّ “للحقّ في الإسلام منزلة الصدارة، وللحرّيّة في المسيحيّة منزلة الصدارة”. وهذا يؤدّي إلى الخلاصة القائلة بأنّ “الحقّ الإلهيّ في الإسلام هو الباب الذي يفضي إلى اعتلان الحرّيّة الإنسانيّة، فيما الحرّيّة الإنسانيّة في المسيحيّة هي الشرط الذاتيّ الذي به يتهيّأ اعتلان الحقّ الإلهيّ”.
غير أنّ عون يقرّ بالوقت عينه بأنّ ثمّة توافقًا بين الديانتين في فهمهما للحرّيّة. فالحرّيّة، وفق الرؤية الإسلاميّة، هي “حرّيّة السلوك في سبيل الرشد، لا حرّيّة الضلال في سبيل الغيّ والباطل”؛ وهي، وفق الرؤية المسيحيّة، “حرّيّة أبناء الله المقترنة بانتهاج سبيل المسيح والاقتداء بسيرته وأفكاره”. كما ينتبه الكاتب إلى خطورة المفاضلة بين الحقّ والحرّيّة، “فإمّا الحقّ وقد بُترت منه الحرّيّة فإذا الدين قهر وقمع وذلّ؛ وإمّا الحرّيّة وقد بُتر منها الحقّ فإذا الدين تميّع وتفلّت وانحلال”.
في الفصل الأخير من الكتاب “التصوّرات المسيحيّة والتصوّرات الإسلاميّة في سياق المطلب العلمانيّ الكونيّ” يتفكّر الكاتب علمانيًّا في هويّة الإنسان وفي دعوته الكونيّة التاريخيّة. ويميل الكاتب إلى تبنّي التصوّر العلمانيّ الذي “على الرغم من تأييده للقيم الأخلاقيّة عينها، يظلّ منعتقًا كلّ الانعتاق من قيود النصّ الدينيّ”. فالعلمانيّة، وفق عون، “تعمد إلى نشر مضامين القيم الأخلاقيّة نشرًا حرًّا يراعي مقتضيات الأحوال، وتبدّل الأوضاع، فيما الديانتان المسيحيّة والإسلاميّة، تخضعان لشريعة إلهيّة يختلف العقل اللاهوتيّ المسيحيّ والعقل اللاهوتيّ الإسلاميّ في تبيان أصولها”.
يستبعد مشير عون في كتابه إمكانيّة أن يكون الفكر الدينيّ، المسيحيّ أو الإسلاميّ، فكرًا رحبًا يناسب العلاقات الدينيّة والسياسيّة بين الجماعات في المجتمعات المعاصرة ذات الانتماءات المتعدّدة. فيستدعي الحلّ العلمانيّ الذي هو “الأحرص على الحياد في تصوّر الهويّة الإنسانيّة”، وهو “الأحرص على العدالة في تسويغ التنوّع الفكريّ والدينيّ في المجتمعات الإنسانيّة المعاصرة”، وهو “الأحرص على تحرير المجال المدنيّ من هيمنة المؤسّسات الدينيّة والأنظومات الإيديولوجيّة والفصل بين السلطة السياسيّة والسلطة الدينيّة والسلطة الذاتيّة العقليّة”.
كان يجدر بالكاتب أن يفرد للعلمانيّة مساحة أوسع من المساحة التي أفردها في الكتاب. ففي مقابل خمسة فصول موزّعة تقريبًا بالتساوي بين المسيحيّة والإسلام، ثمّة فصل واحد يقارن فيه عون بين التصوّرات المسيحيّة والإسلاميّة والعلمانيّة، من دون أن يكتب شيئًا عن العمارة العلمانيّة كما فعل مع العمارتين اللاهوتيّتين المسيحيّة والإسلاميّة. مع ذلك، هل تكون العلمانيّة هي مكان اللقاء بين الإنسان والإنسان في المسيحيّة والإسلام؟
الأب جورج مسّوح
“النهار”، 28 تشرين الثاني 2010