مقارنة أديان أم مقارعة ؟

الأب جورج مسّوح Sunday April 25, 2010 163

ليس مقنعًا الكاتب يوسف زيدان في مؤلّفه “اللاهوت العربيّ وأصول العنف الدينيّ” (دار الشروق، القاهرة) لأسباب عدّة، على رأسها انحيازه الواضح إلى نظريّة لا تستقيم من دون حجج لم يتكبّد الكاتب عناء عرضها وإثباتها بعد دعمها بالإسنادات اللازمة. وهذه النظريّة الزيدانيّة تزعم أنّ ثمّة فكرًا لاهوتيًّا مسيحيًّا عربيًّا ظهر في “منطقة الهلال الخصيب (الشام، العراق) وهي المنطقة التي سادت فيها الثقافة العربيّة، منذ ما قبل ظهور الإسلام، بل قبل انتشار المسيحيّة بقرون من الزمان”، واستمر فيما بعد في علم الكلام الإسلاميّ. وهذا الفكر اللاهوتيّ “العربيّ”، على ما يزعم زيدان، هو فقط ذاك الذي اعتبرته المؤسّسة الكنسيّة الأرثوذكسيّة “المهيمنة” هرطوقيًّا.

المشكلة تبدأ مع عنوان الكتاب، فالكاتب يطلق صفة “العربيّ” على اللاهوت المسيحيّ الأنطاكيّ، وهو لاهوت لغته الأصليّة السريانيّة أو اليونانيّة، فكيف يكون عربيًّا؟ ويرجع الكاتب بعروبة هذا اللاهوت إلى قرون عدّة من الزمان قبل انتشار المسيحيّة، من دون أن يقدّم لنا أيّ برهان لغويّ، أو حتّى مجرّد وثيقة واحدة على الأقلّ، يفيد انتشار “الثقافة العربيّة” وسيادتها قبل المسيحيّة في الشام والعراق. فكان يجدر بالكاتب الابتعاد عن التعميم عبر استعماله فعل “سادت” للحديث عن الثقافة العربيّة في الهلال الخصيب.

ويزداد البلبال حين يجعل زيدان كبار المفكّرين اللاهوتيّين الأنطاكيّين في حقبة ما قبل الإسلام عربًا بالولادة والثقافة، هم الذين دوّنوا مؤلّفاتهم بالسريانيّة أو باليونانيّة، بناء على ما نهلوه من الفلسفة اليونانيّة بخاصّة. فأين كانت الثقافة العربيّة والفلسفة العربيّة آنذاك؟ ألم يكتب آريوس ونسطوريوس وسواهما من المفكّرين الذين خرجوا من “المجمعيّة الأرثوذكسيّة” باليونانيّة، فاين ثقافتهم العربيّة المزعومة؟ ولا نناقش هنا انحيازه إلى مَن اعتبرتهم الأرثوذكسيّة هراطقة ولا ندينه، لكنّ هذا الانحياز أفقد البحث بعض الصدقيّة المنهجيّة التي زيدان نفسه يدينها عند الكتّاب المسيحيّين الدفاعيّين في القرن الأوّل، فأتى نصّه دفاعيًّا من الطراز الأوّل والعيار الثقيل.

ولا يكتفي الكاتب بهذا الانحياز بل يستمرّ فيه حين يقارن بين قصص الأنبياء في العهد القديم وقصصهم في القرآن، متبنّيًا، بل مفضّلاً، القصص القرآنيّ بدون أيّ نقد تاريخيّ أو نصّيّ. فهو يحكم بأنّ “القصص القرآنيّ جاء راقيًا في لغته، مترقّيًا بالقارئ والسامع إلى حضرة علويّة لا يشوّشها لفظ رديء ولا معنًى غير لائق بالله او بأنبيائه” (ص 141)، وذلك على العكس من القصص التوراتيّ والإنجيليّ. وإذا شاء دليلاً على هذا الأمر نراه يستشهد بالقرآن الذي هو “تنزيل أو وحي من الله”، يقول عن نفسه أنّه “أحسن القصص” وأنّه “القصص الحقّ”، وهذه ليست سوى شهادة ذاتيّة لا تلزم الناس جميعًا. فينسى الكاتب الذي يزعم أنّه يعمل في ميدان “مقارنة الأديان” أنّه لا يحقّ للباحث، إن شاء الموضوعيّة العلميّة، أن يميل إلى ما يؤمن به، إذ إنّه لا يكتب مدوّنة فقهيّة أو عقائديّة، بل بحثًا في مقارنة الأديان له أصوله ومنهجيّته الخاصّة. ثمّ دعونا لا نذكر بعض ما رواه القرآن في هذا الصدد، ذلك أنّ الاحترام واجب وأنّ التراشق بالنصوص والآيات لا ينفع المؤمنين ولا يضرّ بغيرهم.

ويتبنّى الكاتب، في هذا السياق غير الحياديّ، الرواية القرآنيّة عن يسوع المسيح بصفتها الرواية التي تعلن “حقيقة المسيح”. فيلبس الباحث هنا لباس الداعية بعد أن يخلع عباءة الباحث. فندرك أنّه ما جنح إلى مَن اعتبرتهم الأرثوذكسيّة “هراطقة” إلاّ لأنّ القرآن أعاد تعاليمهم إلى الحياة ونشرها على أنّها وحي من لدن الله تعالى. وندرك أيضًا أنّ اللاهوت المسيحيّ العربيّ ليس سوى ذاك الذي يوافق القرآن، لذلك يغيَّب أقطاب هذا اللاهوت من الأرثوذكس كيوحنّا الدمشقيّ وثيوذورس أبو قرّة ويحيى بن عدي وسواهم.

حين صدرت رواية “عزازيل” للكاتب نفسه ولاقت اعتراضات جمّة من الأقباط، دافعنا عنه وعن روايته لأنّه لم يزعم أنّه يكتب بحثًا بل رواية، والروائيّ يحقّ له أن يتّخذ لنفسه مَن شاء بطلاً لرواياته. لكنّ البحّاثة في “مقارنة الأديان” لا بطل له سوى المنهجيّة الصارمة والموضوعيّة الصافية، وهذا ما افتقدناه كثيرًا في هذا الكتاب.

 

الأب جورج مسّوح

“النهار”، 25 نيسان 2010

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share