غدًا، الرابع عشر من شهر شباط، تعيّد الكنيسة الأرثوذكسيّة لتذكار القدّيس مارون الناسك، الذي اسمه تصغير للفظ “مار” ويعني بالسريانيّة “السيّد”. فمار مارون، الذي توفّي في بدايات القرن الخامس الميلاديّ، عاش قبل زمن الانشقاقات الكبرى التي جعلت الكنيسة الواحدة كنائس متفرّقة. فهو لم يشهد مجمع أفسس وانشقاق النساطرة (431)، ولم يشهد مجمع خلقيدونية وانشقاق أصحاب الطبيعة الواحدة للمسيح (451)، ولم يشهد الانشقاق الكبير بين مسيحيّي الشرق والغرب (1054).
بيد أنّ القدّيس مارون لم يشهد أيضًا نشأة الكنيسة المارونيّة التي وُلدت إبّان القرن السابع، أي بعد نحو ثلاثة قرون على وفاته. أمّا تسمية الكنيسة المارونيّة فتعود إلى دير القدّيس مارون الذي شيّده أتباع مارون وتلاميذه في منطقة أفامية (المعروفة اليوم باسم قلعة المضيق) القريبة من حماه في سورية على ضفاف نهر العاصي، وقد شهد هذا الدير ازدهارًا كبيرًا في ذلك الزمان. وما يمكن تأكيده عن تاريخ الموارنة في السنين الأولى لكنيستهم يقتصر على أنّ يوحنّا مارون، بطريركهم الأوّل (توفّي عام 707)، هو الذي أنشأ تنظيمًا كنسيًّا خاصًّا بهم مستقلاًّ عن باقي الكنائس المشرقيّة.
لا يذكر ثيوذوريطس أسقف قورش (توفّي عام 466)، صاحب كتاب “تاريخ أصفياء الله” المرجع الوحيد لسيرة مارون، في أيّ بقعة جغرافيّة من سورية تنسّك مارون. وهو يقول إنّ القدّيس كان يتمتّع بموهبة الأشفية حتّى ذاع صيته في كلّ مكان، فكان يستثمر هذه الموهبة لإرشاد الآتين إليه للشفاء إلى التعليم الحقّ. وكان لا يكتفي بشفاء عاهات الجسد فحسب، بل كان أيضًا يأتي للنفوس بالعلاج المفيد، شافيًا “هذا من داء البخل، وذاك من الغضب، مانحًا هذا التعليم المؤدّي إلى الحكمة، وواضعًا لذاك الإرشادات إلى الفضيلة، مروّضًا ميوعة هذا، ومنعشًا ذاك من كسله”.
القدّيس مارون ينتمي، إذًا، إلى الكنيسة الجامعة وليس حكرًا على جماعة مسيحيّة من دون أخرى. هو ابن هذه البقعة المباركة التي تضمّها كنيسة أنطاكية وسائر المشرق، هذه الكنيسة التي عرفت تاريخًا مليئًا بسير الشهداء والقدّيسين والأبرار وكبار المفكّرين الكنسيّين. هو ابن هذه الكنيسة التي شهد فيها المسيحيّون بالكلمة وبالحياة لإيمانهم الحيّ. هو ابن هذا المشرق الذي نطق أبناؤه الإنجيل بالآراميّة والسريانيّة واليونانيّة والعربيّة. مارون هو نموذج القدّيس الناسك، والزاهد بالدنيا وبهارجها.
غير أنّ الكنيسة المارونيّة، وبلا ريب، قد تأثّرت بالقدّيس مارون ونهجه. فهي كنيسة عانت الاضطهاد كثيرًا، وأوى أبناؤها إلى أعالي الجبال هربًا من بطش المخالفين لهم، وعاشوا في ظلّ ظروف قاسية. لذلك غلب عليها، وما زال إلى يومنا الحاضر، طابع التقشّف والنسك. ميزة الكنيسة المارونيّة تكمن في هذه الروح البسيطة المسكوبة في عباداتها وطقوسها السريانيّة النابعة والمتماهية مع التقليد الشعبيّ العريق. هي كنيسة مدعوّة إلى الحفاظ على هذا التراث العظيم.
تدرك الكنيسة المارونيّة أنّها كنيسة أنطاكيّة الهويّة والانتماء، سريانيّة المنشأ، وقد تعرّب لسانها وكتبها الدينيّة منذ قرون. كما ثبّت المجمع البطريركيّ المارونيّ هذه الهويّة ضمن إطار الشهادة المسيحيّة في المجتمعات العربيّة. وهي مدعوّة، كشقيقاتها الكنائس الأنطاكيّة الأخرى، إلى الإسهام في نهضة الأوطان العربيّة التي تضمّها الجغرافية الأنطاكيّة. ولم يغفل المجمع البطريركيّ عن هذا الأمر حين أكّد ابتعاده عن تبنّي أيّ طرح “قومويّ لبنانيّ” أو “قومويّ عربيّ”، من دون أن يتنكّر “للقضايا العربيّة المصيريّة، لا سيّما إزاء العامل الصهيونيّ”.
الكنيسة المارونيّة جزء عزيز من هذه الكنيسة الأنطاكيّة المشتّتة طوائف وكنائس عديدة. ولا بدّ لهذه الكنيسة المارونيّة إذا شاءت الشهادة للمسيح في هذه الديار من أن تحثّ أبناءها على ابتداع أدوار رياديّة يؤدّونها في مجتمعاتهم المتنوّعة، كما فعل أجدادهم من صانعي عصر النهضة العربيّة. فانكفاء دور الموارنة السياسيّ ينبغي ألاّ يؤثّر سلبيًّا على دورهم التربويّ والفكريّ والدينيّ والثقافيّ والحضاريّ. فهم قبل أن يستلموا المواقع السياسيّة العليا في لبنان برعوا في كلّ الميادين الأخرى، وكانوا من أركان الفكر العربيّ الحديث.
القدّيس مارون لا ينحصر في أمّة أو في كنيسة أو في قوم. هو قدّيس الكنيسة الجامعة، قدّيس الكنيسة كلّها. والتاريخ الحقيقيّ هو تاريخ القداسة. فعسى أن يغدو تاريخ الموارنة تاريخ قداسة وحسب.
الأب جورج مسّوح
“النهار”، 13 شباط 2011