اعتدى أفراد من جماعتين سلفيّتين بالضرب على طالب مسلم في الدراسات العليا، والسبب الكامن وراء ذلك كتاب المفكّر التونسيّ عبد الوهّاب المؤدّب “أوهام الإسلام السياسيّ” (دار النهار، 2002). فذلك الطالب الذي يحمل اسم نبيّ الإسلام ذهب إلى إحدى المكتبات في طرابلس لاستنساخ بعض فصول الكتاب في سبيل استكمال أبحاثه ودراساته الأكاديميّة قبل المباشرة في كتابة رسالته، فنال نصيبه من الضرب والإهانات والشتم.
كتب الطالب رسالة إلكترونيّة وزّعها على بعض الأصدقاء قال فيها: “لم أكن أعرف أنّ مالك المكتبة هو أحد مسؤولي حزب (…) والذي، على ما يبدو، وبعد اطّلاعه على الكتاب، قام بتكفيري واعتباري عدوًّا لله وللمسلمين، وبدأ بالصراخ. فحضرت مجموعة من “المجاهدين”، ومنهم مَن كان يحمل السلاح بشكل علنيّ وينتمي إلى حركة (…) وحزب (…) وبدأوا بعملهم الجهاديّ الجبان ضدّي”.
لقد قصدنا حذف اسمي الحزب والحركة، لأنّهما ليسا وحدهما مَن يقوم بهذه الممارسات البشعة. فظاهرة الاعتداء باسم الدين والحفاظ على نقاوة الإيمان تتفاقم، وهي ليست مقتصرة على ديانة من دون أخرى أو على مذهب من دون آخر. فعلى سبيل المثال، اعتدى أحد المتزمّتين المسيحيّين، منذ سنوات، بالضرب على المطران غريغوار حدّاد بسبب آرائه اللاهوتيّة التي لم ترُق للمعتدي.
تسود، إذًا، في بلادنا ثقافة التكفير. هذا القول بات بديهيًّا منذ فترة ليست قصيرة، ولا نزعم أنّنا نقول شيئًا جديدًا. لكنّ المثير للقلق إنّما هو تنامي هذه الثقافة بحيث أصبحت تحتلّ معظم المشهد الدينيّ. فما انتقال المتشدّدين إلى ممارسة الترهيب الجسديّ ضدّ أبناء دينهم ومذهبهم عوضًا من الحوار والنقاش والجدال سبيلاً لفرض آرائهم سوى دليل ساطع على مدى تخلّف خطابهم الدينيّ عن الحجّة والبرهان العقليّين، ودليل قاطع على مخالفتهم صريح القرآن: “ادعُ إلى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إنّ ربّك هو أعلم بمَن ضلّ عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين” (سورة النحل، 125).
انتشار ثقافة التكفير لدى الجماعات الإسلاميّة المتشدّدة يثير قلق المسلمين قبل المسيحيّين. فأهل الكتاب من مسيحيّين ويهود، وفق بعض الآراء، كفّار ومشركون، ووفق بعض الآراء الأخرى الأكثر انفتاحًا، مؤمنون بالله الواحد الأحد ولكنّ إيمانهم تشوبه بعض المعتقدات التي تجعل توحيدهم مشكوكًا بصحّته. غير أنّ الحكم بكفر المسيحيّين لا يؤدّي، في شتّى الأحوال، إلى استباحة دمائهم. فيما قد يؤدّي الحكم بكفر بعض المسلمين واتّهامهم بأنّهم “أعداء الله ورسوله والمسلمين” إلى هدر دمهم والقضاء عليهم.
منذ قرنين لم يعرف المجتمع الإسلاميّ انحطاطًا يوازي ما نشهده اليوم. فالسؤال الذي طُرح منذ أكثر من قرن ومفاده: “لماذا يتقدّم الغرب ونتقهقر نحن؟” ما زال راهنًا وضاغطًا على رقابنا كافّة. حركات تكفيريّة ضمن المذهب الواحد وتجاه الآخرين، انقطاع كلّيّ عن مقتضيات العصر، طلاق مع الفكر والعقل والعلم والمعرفة، نبذ للرأي الآخر، كراهيّة لكلّ مَن يخالف الرأي، سيادة العنف… وما ننفكّ نبحث عن الجواب. إلى متى؟
بئس الفكر الدينيّ الذي يهدّده كتاب أو مقالة أو قصيدة. بئس الجماعات التي تخشى باحثًا مسلمًا لا شكّ في إسلامه، فترى فيه خطرًا على الأمّة، والخطر كامن في عقولهم وليس في مكان آخر. والله هو الستّار الرحيم.
الأب جورج مسّوح
“النهار”،27 تموز 2011